في بيت حانون، بوابة الصمود وموئل الأبطال، وسط الركام والدمار، حيث يختلط الألم بالأمل، تشرق أرواحٌ لم تنكسر، وقلوبٌ تصنع المجد من بين الأنقاض. هناك، وسط جثث الشهداء ودموع الثكالى، يقف رجال الله حاملين سلاح الإيمان، يزرعون الشجاعة في قلب الاحتلال، ويعيدون للعالم درسًا خالدًا: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
هؤلاء الرماة أبناء إسماعيل، بقلة عددهم وقوة إيمانهم، يجسدون حقيقة القرآن التي لا تتغير: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249]. جالوت اليوم ليس فقط ضخمًا في سلاحه، بل جبروته في غروره، لكنه سيسقط أمام عزيمة المؤمنين الذين استمدوا قوتهم من وعد الله وصدق نصره.
وها هي حجارة داود، تلك التي كسرت جبروت جالوت، تعود اليوم لتُهشم عربات جدعون المصفحة، فتتحطم أصنام القوة المادية والجبروت المتغطرس. كما في آيات الله تعالى، حيث السلاح الحقيقي ليس في الحديد والصلب، بل في إيمان القلوب وصلابة العزائم. فتاريخ الصراع بين الحق والباطل قد نقش بأحجار المعارك الخالدة، من زمان داود وجالوت، مرورًا بطوفان الأقصى، وحتى الآن في أرض فلسطين الصامدة."وهب الله داود الملك والحكمة، وعلّمه مما شاء، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، لكن الله ذو فضلٍ عظيم على العالمين {البقرة: 251}.
هذه الحجارة ليست مجرد قطع صخر، بل هي رموز الإرادة التي تتحدى جبروت الطغاة، وتحطم أوهام الهيمنة، لترسخ حقيقة لا تتبدل: أن القوة مع الإيمان، وأن النصر حليف الصابرين الذين يعاهدون الله في الصمود والثبات مهما طال الظلم وطغى الجور.
ليس الصراع هنا صراع أسلحة فحسب، بل صراع عقيدة وعقول بين احتلال سادي وأصحاب الأرض التي يعرفونها وتعرفهم، يتعاملون معها بحكمة وحنكة، وكأنهم يقولون: "هذه الأرض لنا، وكل رصاصة فيها شهادة، وكل خطوة فيها انتصار."
خرجوا من تحت الأنقاض، من بيوتٍ دُمرت وعائلاتٍ استشهدت، لكن قلوبهم كانت أكبر من أن تُكسر، تزداد قوة مع كل ألم، تحيا من رحم الحصار والقصف، تصنع من دموع الأمهات وقودًا للصبر والإصرار، حتى يرتفع صوت الدعاء: {إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104].
إن النصر ليس إلا وعد الله للمتقين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} [النور: 55].
وفي حديثه الشريف قال النبي ﷺ: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن...»، فثباتهم في المحن دليل إيمانهم وثقتهم بوعد الله، ومثابرتهم على الجهاد تهيئة للنصر الذي وعد الله به المؤمنين الصابرين.
كل لحظة ألم واشتداد قصف هي خطوة تقربهم من النصر، وكل دمعة تنساب على وجنات الأمهات تعزز عزيمتهم، فهم الذين قال الله فيهم: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
في غزة، تتجلى معاني الإيمان والصبر والعمل الدؤوب، وتظهر قوة الله في ميدان القتال، لتثبت أن العاقبة للمتقين، وأن الظلم مهما طال لا يدوم، كما قال ابن القيم: "الشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت."
هم رجال الله الذين لا يشبههم أحد، يحملون تراب الأرض في قلوبهم، ويرسمون بأرواحهم لوحة النصر التي لا تمحى، متوكلين على الله، مستمدين العزيمة من سنن الله الثابتة التي تحكم الصراع بين الحق والباطل.
اللهم ثبّتهم، وانصرهم، وكن معهم حيث كانوا، كما نصر داود عليه السلام، وبشر المؤمنين بالنصر المبين.

