تعودت في طفولتي أن كلمة وعد هي ضمانة لإنفاذ ما نريده و هي مقدسة لأنها تقوم مقام القسم حتى لا نتساهل به على البسيط من الأمور، و ضرورية في الوقت ذاته حتى لا نتفلت من كلامنا بداعي البراءة و النسيان أو نفلت الأسرار "الخطيرة" التي استودعها الأصدقاء في قلوبنا، وأدركنا أيضا صغارا أن من ينكث الوعد غير جدير بالثقة!
ومع أن الوعد يوصف بإتمام أو إخلاف إلا أن الكلمة ذاتها مجردة بقيت مرتبطة بالمعالي والنبل ودلالة على الإيمان والبعد عن النفاق وللكلمات حياة، روح وجسد، ولها سياقات معرفية ودلالية وأجواء وارتباطات ذهنية فإطلاق كلمة قدوة على شخص ما مثلا يسحب أذهاننا إلى فضائله وميزاته مع أن القدوة قد تكون في الخير والشر، ولكن طبع الخير يغلب على بعض الكلمات حتى يصعب علينا صرفها في مجالات الشر أو تصورها وفي خطورة الكلمات يقول جان بول سارتر في كتابه ما هو الأدب " الكلمة ليست نسيمًا عليلاً يداعب مخيلاتنا وعقولنا دون أن يؤثر فيها، ولكن الكلمة هي أداة الإرسال والاستقبال والتوجيه، هي مسدسات محشوة قد تحمي الخير أو تجهز عليه.
ولذا فإن ترجمة Balfour Declaration إلى "وعد" بلفور ليس خطأ في الترجمة فحسب بل خطيئة في حق الكلمات واللغة العربية ومفهوم الوعد، وكلمة ميثاق كذلك ليست خيارا أفضلَ فالمواثيق عهود ووعود تحمل هالة القداسة والوفاء، وفعل مدنس يحلل اغتصاب أرض وإبادة شعب وطمس تاريخ لا يمكن أن يسمى بهذه المسميات التي قد تسبغ عليه شيئا من الحياد في أقل معانيه! ومهما كانت الكلمات والمعاني في اللغة الأم التي أصدرته، وصدرته بعين العطف، وسوّقته بلغة التعاطف والتجاهل للحقائق لا ينبغي لمن وقعت عليهم الجريمة أن يقبلوه لا لغة ولا حدثا، فاللغة تصنع الأفكار والمشاعر وهذه وقود الأفعال، وشعب منهزم في لغته وذاته وهويته لن يثبت قدمه على أرض ولن يضع بصمته على صفحة تاريخ، إن شيئا من الانتصار يتحقق بأن نخاطب أنفسنا والعالم بلغة أصحاب الحق لا بمنطق الضحية المظلوم على كافة الأصعدة أو المغلوب على أمره، بلغة أصحاب الحق الذين يوجهون دفة الفكرة والكلمة ومن بعدها الفعل والممارسة والسياسة، إن الشعب المهزوم لغويا لن ينتصر عسكريا، ولذا حرصت شعوب العالم التي حكمت وازدهرت ثم هزمت أن تحافظ على لغتها التي تحافظ على هويتها وتراثها في معركتها للتخلص من المستعمر والنهوض من جديد.
لقد حرصت حركة الحقوق المدنية على تجريم جميع الألفاظ التي تمتهن كرامة السود أو تضفي عليهم صفة العبودية، أو تضعهم في أي خانة باستثناء المواطنة، فأصبحت كلمات مثل زنجي negro , nigger أو أسود تعري قائلها وتخرجه من الإنسانية ولم تعد شتيمة لمتلقيها! فقد اكتسبت الكلمات أبعادا حقوقية وأصداء إنسانية وأصبح لها سلطة على الوصم وقدرة على تغيير الممارسات حتى ننتصر علينا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، ونرسخ حياة الكلمات ودورها في إيجاد الفكرة وإيقاظ الذاكرة وحماية المعتقد.
ما حصل لفلسطين والشعب الفلسطيني في ١٩١٧ كان جريمة نكراء وإطلاق كلمة وعد عليه خديعة للتاريخ والحاضر، وقتل للمعاني السامية فينا، فلا وعد إلا الوعد الحق أن تعود فلسطين حرة عزيزة ودرتها القدس.
في البدء كانت كلمة الإيمان والتوحيد، وهذه القوة، فلما حدنا عنها ماتت فينا الكلمات ومعانيها وأعمالها وباستعادتها نعود.