في أحد أزقة حي الدرج وسط مدينة غزة، ينهمك الحاج حامد الشيخ في تنظيف أدواته بصمتٍ ثقيل، داخل المذبح الذي يملكه، ويُعد واحدًا من المذابح القليلة التي ما زالت تعمل في غزة في زمن الحرب. لا صياح للخراف، ولا أصوات للمشترين، ولا حتى صدى لتكبيرات الأطفال في محيط المذبح، كما اعتاد في مثل هذه الأيام. فقط صوت الحرب ومشاهد الموت، وهدير المقاتلات الحربية التابعة لجيش الإبادة الإسرائيلي، ورائحة الدم المنبعثة، ليس من الأضاحي فحسب، بل من طوابير الشهداء.
في الجهة المقابلة لمحله، يُشعل الشيخ (61 عامًا) موقدًا حجريًا يحتضن بين جنباته مجموعة من الأخشاب المشتعلة، ضمن مهمة يومية لإعداد شوربة "المرقة"، المصنوعة من الماء، ودهن الخروف، وبعض عظامه، المختلطة بأنواع مختلفة من البهارات. يحرص أبناؤه على إعدادها بعدما أصبحت وجبة مفضلة تلقى إقبالاً متزايدًا.
هذا المشهد يتكرر للعام الثاني على التوالي في قطاع غزة، حيث يُحرم المواطنون، الذين يتجاوز عددهم مليوني نسمة، من الأضاحي واللحوم وغيرها من المواد الغذائية الأساسية، في ظل الحصار المطبق الذي رافق حرب الإبادة الممتدة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
أمام أحد الأوعية المعدنية الممتلئة بالمرقة، وقف هاشم محمود يتأمل قطع الدهن العائمة على سطحها، قبل أن يطلب من البائع أن يضع له لترًا منها داخل ظرف صغير.
كان هاشم يمسك بيد طفله، وقد تعلقت عيناه بقطع من العظم داخل وعاء الطبخ. سأله الطفل: "ستحضر لنا أضحية؟" ولم يجد الأب جوابًا.
محمد عارف، رب أسرة نازحة من شمال القطاع إلى مدينة غزة، وقف قرب بائع المرقة يتأمل لافتة مكتوب عليها: "اللتر بـ7 شواكل." ابتسم بمرارة وقال: "هذا ما نقدر عليه. لم نعد نحلم بالخروف. فقط نشتري بعض المرقة، ونتخيل أن فيها لحمًا، ونرضي أطفالنا برائحة الأضحية لا أكثر."
الحرب على غزة لم تكن دموية بحق البشر فحسب، بل إن القصف الإسرائيلي دمّر مزارع الماشية، وأدى إغلاق المعابر إلى منع دخول الخرفان والعجول، فيما صارت الأسعار كابوسًا يطارد المواطنين الغزيين.
فقد حامد الشيخ، المكنى بـ"أبو أمين"، مزرعته خلال الحرب. كانت تضم المئات من رؤوس الماشية، من خرفان وعجول، وتقع بالقرب من سوق السيارات في حي الزيتون المُدمَّر، جنوبي مدينة غزة، حيث تتمركز قوات الاحتلال.
وكان ذلك سببًا رئيسيًا في ارتفاع أسعار اللحوم بشكل جنوني، إلى درجة أن الغالبية العظمى من سكان غزة لم يتناولوا وجبة لحم واحدة منذ ما يزيد على عام ونصف.
يقول الشيخ لصحيفة "فلسطين": "ثمن الخروف الواحد قبل الحرب كان يتراوح بين 1200 و1500 شيكل، والآن ارتفع السعر أضعافًا مضاعفة حتى صار يتراوح بين 12 و15 ألف شيكل. هذا الرقم لا يقدر على دفعه أحد إلا أصحاب رؤوس الأموال."
الملحمة التي يملكها الشيخ يزيد عمرها على 36 عامًا، اعتاد خلالها على ذبح خروف واحد على الأقل يوميًا، وفي موسم العيد كان يبيع قرابة 60 عجلًا و90 خروفًا. لكنه حاليًا بالكاد يذبح خروفًا واحدًا كل أسبوع، إن توفر، في ظل الحصار والعجز الحاصل في المواشي.
أما عن موسم الأضاحي، فيقول إنه معدوم تمامًا؛ فلا يتوفر لدى التجار ما يكفي من رؤوس الماشية، والناس ليس بإمكانهم شراء اللحوم لافتقارهم القدرة الشرائية.
يصل ثمن الكيلوغرام الواحد من لحم الخروف إلى 450 شيكلًا، فيما يلجأ البعض إلى ذبح الجمل في عمر يتراوح بين عام وعام ونصف، ويُسمى "قاعود"، إن توفر، ويبلغ سعر الكيلوغرام منه قرابة 200 شيكل.
في غزة، لا أحد ينتظر لحم الأضحية؛ فقط الناس يأملون ألا يُحمَلوا على الأكتاف أو يُدفَنوا تحت ركام الحرب، كضحايا للإبادة الإسرائيلية.