فلسطين أون لاين

باحثة في "هيومن رايتس ووتش": غزة تضع العدالة الدولية على المحك وتكشف ازدواجية المعايير

...
باحثة في "هيومن رايتس ووتش": غزة تضع العدالة الدولية على المحك وتكشف ازدواجية المعايير
نيويورك-غزة/ محمد القوقا

- منذ أكتوبر يُستخدم التجويع والعلاج سلاحًا.. وهذا يرقى إلى أفعال إبادة جماعية

- رفض تنفيذ مذكرة توقيف نتنياهو إهانة مباشرة لضحايا الجرائم

- المشاهد من غزة مفزعة ومربكة.. أنتم تستحقون العدالة والتعويض والمحاسبة

- التهجير الجماعي وتصاعد عنف المستوطنين بالضفة يُعمّقان نظام الفصل العنصري

قالت الباحثة القانونية في منظمة "هيومن رايتس ووتش"، ميلينا أنصاري، إن العدوان الوحشي المستمر على قطاع غزة منذ أكثر من ستمائة يوم يشكّل اختبارًا مصيريًا لمصداقية العدالة الدولية، بعد أن كشفت التطورات الميدانية فشل النظام القانوني العالمي في التصدي لجرائم ترقى إلى الإبادة الجماعية، وسط ردود فعل ضعيفة وغير كافية.

وأكدت أنصاري، في مقابلة مع "فلسطين أون لاين"، أن ما يتعرض له الفلسطينيون في غزة من تجويع ممنهج، وتدمير واسع النطاق، وتهجير قسري، يُعدّ جريمة متكاملة الأركان بموجب القانون الدولي، مضيفة أن "كل مؤسسة قانونية أصبحت موضع تحدٍ مباشر، مما فاقم من شعور الفلسطينيين ومناصريهم حول العالم بخيبة أمل عميقة".

ورغم سوداوية المشهد، ترى أنصاري أن بعض التحركات القضائية والدبلوماسية تعكس بداية تحرّك دولي نحو المساءلة، منها مذكّرات التوقيف التي أصدرها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2024 بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير جيشه وقتذاك يوآف غالانت، على خلفية ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

كما أشارت إلى التدابير المؤقتة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني 2024، في القضية المرفوعة من جنوب أفريقيا، والتي طالبت فيها المحكمة (إسرائيل) باتخاذ إجراءات عاجلة لمنع وقوع أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في القطاع.

وقالت أنصاري إن منظمات حقوقية، بينها "هيومن رايتس ووتش"، ساهمت في توثيق أدلة تؤكد أن (إسرائيل) تستخدم التجويع كسلاح حرب، وذلك عبر منع دخول الغذاء والمياه والأدوية.

وأضافت أن هذا الحصار أدى، وفق تقديراتها، إلى وفاة آلاف الأشخاص، وخاصة الأطفال والمرضى، مشيرة إلى أن هذه الممارسات ترقى إلى "أفعال إبادة جماعية".

أوروبا تتفاعل

ولفتت الباحثة الحقوقية إلى أن بعض الدول الأوروبية بدأت باتخاذ خطوات ملموسة نحو مراجعة علاقاتها مع (إسرائيل) استجابة للزخم الشعبي والدعاوى القانونية، مشيرة بذلك إلى قرار الاتحاد الأوروبي في مايو/أيار الماضي بدء مراجعة اتفاقية الشراكة مع (إسرائيل) بناءً على بند حقوق الإنسان، فيما علّقت المملكة المتحدة محادثات التجارة الحرة مع "تل أبيب".

واعتبرت أن هذه الإجراءات، رغم أنها جاءت متأخرة، فإنها "تمثل رسائل واضحة بأن المساءلة لم تعد بعيدة المنال"، داعية في الوقت ذاته إلى استمرار الضغط السياسي والشعبي لتعزيز هذه التحركات.

وأكدت أن استعادة الثقة في نظام العدالة الدولية "لن تكون سهلة أو سريعة"، لكنها "ممكنة إذا واصلت المؤسسات الدولية اتخاذ مواقف مبدئية وجريئة".

قتل وتجويع وتطهير عرقي

وفي سياق التوثيق، قالت أنصاري إن منظمة "هيومن رايتس ووتش" نشرت منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي عدة تقارير مفصلة توثّق الانتهاكات الإسرائيلية، من بينها القتل العشوائي والتجويع المتعمّد، إلى جانب التهجير القسري لمئات آلاف المدنيين، وتدمير أحياء بكاملها، مما يشير إلى سياسة تطهير عرقي ممنهجة.

وأوضحت أن الأبحاث الميدانية للمنظمة ركّزت على الانتهاكات ضد الفئات الهشة، خصوصًا النساء الحوامل والأطفال، كما وثّقت استهداف المستشفيات واحتلالها وتحويلها إلى ثكنات عسكرية، وهو ما يُعدّ خرقًا جسيما للقانون الدولي الإنساني.

وأضافت أن انتهاكات مماثلة رُصِدت في الضفة الغربية، خاصة في شمالها، حيث شهدت المنطقة موجات تهجير جماعي وتوسعًا في عنف المستوطنين، ما يعزّز "الطبيعة العنصرية لنظام الاحتلال الإسرائيلي، ويؤكد أن ما يجري هو تطبيق ممنهج لسياسة الفصل العنصري".

العدالة تبدأ من الشارع

وشددت أنصاري على أهمية الضغط الجماهيري ودور الحركات الشعبية العالمية في دفع المؤسسات القضائية نحو مزيد من الجرأة في محاسبة مرتكبي الجرائم، قائلة: "القانون الدولي يضع التزامات واضحة، لكن الدول تتقاعس كثيرًا عن الوفاء بها. وهنا يظهر دور الشعوب".

واعتبرت أن الضغوط الشعبية في الدول الغربية ساهمت في تحريك عدد من الحكومات، ومنها فرنسا والمملكة المتحدة وكندا، التي بدأت مواقفها تشهد تحولات تدريجية استجابة لتعبئة شعبية ودعاوى قانونية مرفوعة محليًا. وكان قادة فرنسا وبريطانيا وكندا أعلنوا في بيان مشترك الشهر الماضي عن اتخاذ إجراءات ضد "(إسرائيل) إذا لم توقف حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

في هذا السياق، دعت أنصاري إلى توسيع نطاق مذكّرات التوقيف لتشمل مسؤولين إسرائيليين آخرين، مشيرة إلى أن المساءلة لا ينبغي أن تتوقف عند نتنياهو وغالانت، بل يجب أن تمتد لتشمل كل من تورّط في الجرائم الموثقة.

ازدواجية المعايير

انتقدت أنصاري رفض بعض الدول، خصوصًا الولايات المتحدة والمجر، الامتثال لأوامر المحكمة الجنائية الدولية، واعتبرت أن ذلك يقوّض مصداقية العدالة الدولية، ويبعث برسالة خطيرة مفادها أن بعض الأفراد والدول "فوق القانون".

وأضافت: "نُذكّر الدول بأن تجاهل أوامر المحكمة لا يضر بمكانة العدالة الدولية فقط، بل يحرم الضحايا من حقهم في الإنصاف، ويشجّع على تكرار الجرائم".

وفي سياق متصل، أكدت أنصاري أن "هيومن رايتس ووتش" تتواصل بشكل دائم مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي لحثه على تبني موقف موحّد في وجه الضغوط الأمريكية، بما في ذلك تفعيل نظام التصدي الأوروبي لوقف مفعول أي عقوبات تعرقل عمل المحكمة.

وتوقفت عند موقف المجر تحديدًا، بعد أن امتنعت عن تنفيذ مذكرة التوقيف بحق نتنياهو خلال زيارته في أبريل/نيسان الماضي، قائلة: "هذا يشكّل دعمًا صريحًا لمرتكبي الجرائم الدولية، وإهانة مباشرة لضحايا العدوان على غزة".

التعاون مع منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية

أبرزت أنصاري أهمية التعاون مع منظمات حقوق الإنسان المحلية في غزة والضفة الغربية، ووصفت هذا التنسيق بـ"الركيزة الأساسية" في عمل المنظمة. وقالت إن "الشركاء المحليين يملكون خبرة ميدانية عميقة، ويواجهون بأنفسهم آثار العنف والتدمير، ومع ذلك يواصلون العمل بشجاعة في توثيق الجرائم".

وأضافت أن التعاون يشمل إعداد التقارير، وتنظيم الفعاليات الحقوقية الدولية، وتوحيد الرسائل القانونية، بما يضمن إيصال صوت الضحايا إلى المحافل القضائية العالمية.

وأكدت الباحثة الحقوقية أن العدالة الدولية لا يمكن أن تكون انتقائية، وأن مصداقيتها تتطلب محاسبة جميع من ينتهك القانون الدولي، دون استثناء. وقالت: "لا يمكن السماح بإفلات أي طرف من العقاب، وإذا أردنا نظامًا قانونيًا عالميًا موثوقًا، يجب أن نتعامل مع كل قضية، بغضّ النظر عن الاعتبارات السياسية أو الجغرافية".

وأكدت أن "هيومن رايتس ووتش" ستواصل استخدام كل الأدوات المتاحة، من التوثيق إلى الضغط الدبلوماسي، لدفع العالم نحو إنهاء الإفلات من العقاب، وتحقيق العدالة للفلسطينيين في غزة وباقي الأراضي المحتلة.

رسالة شخصية إلى غزة

ووجّهت أنصاري رسالة مؤثرة لأهالي غزة قالت فيها: "لا كلمات ولا أفعال، سواء من الأفراد أو المنظمات، يمكن أن تفي بحقكم في مواجهة الخسارة التي لا تُحتمل، والوحشية المتواصلة التي تعانون منها. أعبّر عن بالغ الاحترام لعشرات الآلاف من الأرواح التي فُقدت، من الأطفال والنساء إلى كبار السن وذوي الإعاقة، والرجال الذين ثبتوا رغم الفظائع. أنتم لا تستحقون مجرد التضامن، بل العدالة والتعويض والمحاسبة".

وختمت بالقول: "المشاهد من غزة مفجعة ومربكة، وغالبًا ما تُسبب الشلل النفسي. مثل كثيرين، شعرت بالذهول والغضب من فشل العالم في اتخاذ موقف حاسم لإيقاف هذه المجازر. لكنني، وبشكل ما، أتعلم من غزة المعنى الحقيقي للتشبث بالإنسانية، والإصرار على الحياة والمقاومة، حتى حين يُنتزع منك كل شيء".

المصدر / فلسطين أون لاين