بعد عشر ليالٍ تقلب فيها بين ألم الإصابة ووجع لم يشعر به، غائبًا عن الوعي، مسجّىً صامتًا إلا من قلبه الذي ظل ينبض، كانت أنفاسه تصارع الرحيل، وجسده المثقل بالصمت يصارع آثار المجزرة.
كانت الطبيبة آلاء النجار (36 عامًا) تلازم غرفة العناية المركزة في مستشفى ناصر الطبي بمحافظة خان يونس، تراقب حالة زوجها الطبيب حمدي النجار، وتتردد بين قسمي العناية والحروق لمتابعة حالة طفلها آدم (11 عامًا)، الناجي الوحيد من المجزرة، بعد فاجعة فقدان أطفالها التسعة في مجزرة دامية هزّت الضمير العالمي.
لم تغادر الطبيبة والأم المكلومة أبواب العناية. كانت تراقب علاماته الحيوية، ومجريات العمليات الجراحية، ومؤشرات تخطيط القلب، وكل نبضة كانت تمنحها أملًا بأن يفتح زوجها عينيه ليمد لها يده في مواجهة قسوة الفقد، لكنه اختار أن يلحق بأطفاله التسعة أمس، لتقف زوجة الشهيد وأم الشهداء أمام فقدٍ جديد ووداع قاسٍ لشريك الروح والحياة بعد 13 عامًا من الزواج، أنجبا خلالها عشرة أطفال زينوا حياتهم ومنزلهم بأصواتهم وضحكاتهم وذكرياتهم الجميلة.
عندما وقعت المجزرة في الساعة الواحدة من ظهر الجمعة، الموافق 23 مايو/ أيار 2025، كانت الطبيبة على رأس عملها. وصلها خبر "استهداف منزل مقابل محطة فارس بقيزان النجار"، فغادرت عملها على الفور متجهة نحو البيت للاطمئنان على أطفالها وزوجها. وعندما وصلت، وقفت أمام الفاجعة، تشاهدها بعيون دامعة وقلب منفطر.
أطفالها الذين ودعتهم في الصباح في آخر لقاء بينهم وهم في أجمل صورة، ينتشلون الآن بأجساد متفحمة أمامها، في مشهد اختلطت فيه أجسادهم، وغابت ملامحهم الجميلة أمام قسوة القصف الدامي.
انتشلت الطواقم جثامين أطفالها: ركان (10 أعوام)، إيف (9 أعوام)، جبران (8 أعوام)، لقمان (6 أعوام)، سدين (7 أعوام)، رُسلان (5 أعوام)، وريفال (4 أعوام)، كلها جثامين مرت أمام عيون أمهم حتى قبل تكفينهم. مع كل مشهد كانت تودع جزءًا من روحها، في حين بقيت جثة أكبر أطفالها يحيى (12 عامًا) تحت الركام، وكذلك طفلتها الرضيعة سيدرا (6 أشهر)، ونجا آدم (11 عامًا)، الذي يمد يده لأمه ليواجها ثقل الفقد وحدهما.
عائلة الأطباء
درس الطبيب حمدي النجار الطب في مصر، وتزوج الطبيبة آلاء النجار قبل 13 عامًا، وأنجب منها عشرة أطفال. كرس حياته لمهنته، فأنشأ مجمع "اليحيى" الطبي الذي حمل اسم والده ونجله الأكبر، وضم العديد من الأقسام: الباطنية، الأسنان، التحاليل الطبية، الأشعة، النساء والولادة، وجميعها حملت أسماء أطفاله، محاولًا غرس التخصصات الطبية في كل طفلٍ منهم.
ويتابع شقيقه: "كان المركز حلم والدي الذي توفي قبل الحرب بعامين، وحققه أخي، لكن الاحتلال بهذه المجزرة البشعة قتل حلم أبناء أخي بأن يصبحوا أطباء على غرار والديهم".
لم يُغلق المركز أو الصيدلية أبوابهما طيلة الحرب، وفي منطقة تفتقر لأي مركز طبي، كانا ملجأ للأهالي. يتحدث شقيقه عن هذه الخدمة بنبرة مفعمة بالفخر: "لم يكن يحصل أخي على كشفية، بل فقط على ثمن الدواء. لم يكن هناك بديل عن المركز الطبي في المنطقة، وكان الأهالي يرتادونه باستمرار. أخي كان طبيب العائلة، نلجأ إليه مع أولادنا. في آخر يوم رفض بيع أدوية الصيدلية خلال النزوح، على أمل أن يعود الناس. كنا نفتخر به ونرفع رؤوسنا به لأنه متمكن في عمله، ومكّنه تخصصه من تشخيص الحالات التي تصل الصيدلية وتقديم العلاج المناسب".
عاش شقيقه كثيرًا من تفاصيل حياة "عائلة الأطباء"، كما يُطلق عليهم: "أخي طبيب باطنة وقلب، جعل من بيته مركزًا طبيًا. ومن الصباح حتى العاشرة مساءً لا تراه إلا في الصيدلية الموجودة أسفل البيت. أطفاله آدم ويحيى كانا يتحدثان الإنجليزية بطلاقة، ومطلعَين على الجانب الطبي بصورة كبيرة، فبإمكان أيٍّ منهما تقديم وصفات طبية وكأنهما خريجان جامعيان، إضافة إلى مساعدتهما لوالدهما في تشغيل بئر المياه بالبيت، ورعاية إخوتهما حين يذهب لإيصال والدتهما إلى المشفى. كما حفظا القرآن الكريم".
أما بقية الأطفال الصغار، فتميّزوا بملامحهم المتشابهة وجمالهم اللافت، بشعور شقراء وملامح صافية كصفاء السماء تزينها عيون خضراء. ولم تكن الملامح الجميلة فقط ما ميزهم، "بل كانوا على درجة عالية من الذكاء، والأخلاق، والتربية، وشغف بالحياة والطموح. كانوا يستقبلوننا بحب، لأننا عائلة مترابطة، وهم كانوا كأبنائي"، يخرج الكلام من قلب شقيقه مثقَلًا بقسوة الرحيل.
جرب الطبيب حمدي وزوجته ويلات النزوح، ففي المرة الأولى نزحوا أربعة أشهر، وفي الثانية نزحوا شهرًا. يستحضر شقيقه قرار أخيه خلال أوامر النزوح الثالثة لمنطقة قيزان النجار:
"قرر أخي وزوجته عدم النزوح لأن لديهم عشرة أطفال، ومن الصعب التنقل بهم، قال لي: أنا طبيب وزوجتي طبيبة، وأولادي أطفال.. إيش بدهم فينا!؟" وبقوا على هذا الأساس. لم نكن نتخيل أن يتم قصفهم.
يصغر الطبيب حمدي شقيقه علي بعشر سنوات، وتحضره مواقف من الحياة معًا: "كنت أتعامل معه كأنه ابني كونه أصغرنا. عندما وُلد، سمّتْه أمي "حمدي" على اسم والدها. نحن ثلاثة أشقاء ذكور وخمس شقيقات إناث. ثلاث من شقيقاتي في مصر، إضافة إلى أخي الثالث، وترافقهم أمي – وهي بالأصل مصرية – وقد أرسلناها إلى مصر قبل الحرب لأنها بلغت السبعين من عمرها، ويصعب عليها تحمّل النزوح وقسوة الحرب".
وداع دون عناق
من بعيد، ودون عناق، ألقت والدة الطبيب حمدي نظرات وداع بعيون دامعة وقلب يغلي حزنًا، وألمًا على رحيل نجلها وأحفادها. ما أثقل وجعها أنها لم تودّعهم إلا من خلال صور أرسلها إليها نجلها علي.
في هذه الأيام من كل عام، التي تسبق عيد الأضحى، يسترجع بعض الذكريات، وفي لحظةٍ رافقت الدموع صوته قال:
"كنا نحضّر الأضحية معًا، ويوم العيد نجتمع مع أطفالنا وهم يشاهدون لحظات الذبح. كان الاجتماع العائلي أكثر ما يميزنا في العيد".
رسم الطبيب حمدي وزوجته آلاء أحلامًا كبيرة لأطفالهما، يقول شقيقه: "كان يخطط لأن يدرسوا في الأزهر الشريف، الذي يضم تخصصات الطب والهندسة والصيدلة. وإن انتهت الحرب كان ينوي السفر بهم إلى مصر لإخراجهم من الأجواء النفسية الصعبة التي سببتها الحرب. وإن لم تنتهِ، خطط لإرسالهم للسفر مع والدتهم في حال فُتح المعبر، كونه وزوجته وجميع أطفاله يحملون الجنسية المصرية".
عن صمت العالم تجاه المجزرة، يؤكد النجار: "المجزرة ستبقى وصمة عار بحق المنظمات الدولية والعالمَين العربي والإسلامي، الذين لا زالوا يشاهدون المجازر من بعيد بصمت. وقعت مجزرتنا ولم يتحركوا، وكل يوم هناك مجازر وشهداء، وهم مستمرون في المشاهدة، دون أي اعتبار لحق الأطفال والإنسان بالحياة، كما تنص قوانينهم التي بقيت حبرًا على ورق".
بين تربية أطفالها ورعايتهم، التزمت الطبيبة آلاء النجار بدوامها طيلة الحرب كطبيبة أطفال. بقيت على رأس عملها حتى فجعت بالمجزرة وهي تمارس مهنتها المقدسة. كان زوجها الطبيب حمدي رفيق دربها نحو المشفى، تلك اليد التي انتظرت أن تنتفض من السرير الطبي لتمد لها يدها، اختارت الرحيل. وبقيت الطبيبة تواجه قسوة الأيام وحدها، متشبثةً بيد طفلها الوحيد الناجي: "آدم".

