فلسطين أون لاين

شظية أصابتها بشلل نصفي وأفقدتها النطق ..

تقرير "الموت الثَّالث"... الاحتلال يقتل حلم الطِّفلة "ميرا" بأن تصبح طبيبة

...
"الموت الثَّالث"... الاحتلال يقتل حلم الطِّفلة "ميرا" بأن تصبح طبيبة
غزة/ يحيى اليعقوبي:

"إحنا متنا مرتين!".. كان ذلك سؤالًا وجهته الطفلة ميرا أحمد (4 سنوات) لأمها، بعد إصابتها بجروح طفيفة نتيجة استهداف الاحتلال للمنزل الذي نزحت إليه مع عائلتها خلال الأشهر الأولى من الحرب. لم تكن تعلم أن الإصابة التالية، التي تسميها "الموت الثالث"، ستقضي على حلمها بأن تصبح طبيبة، بطريقة لم تكن تتخيلها يومًا.

على أحد أسرّة مستشفى "ناصر الطبي"، ترقد ميرا مصابة بشلل نصفي، وقد لفّ رأسها شاش طبي. فقدت النطق، بعدما تسببت شظية إسرائيلية في كسر بالجمجمة، وأدخلتها في حالة صدمة شديدة، لا تقل عن الصدمة التي تعيشها والدتها وشقيقتاها. مكثت عشرة أيام في المستشفى، كانت خلالها بين الحياة والموت، إلى أن فتحت عينيها على واقع أشدّ قسوة.

إلى جانب سريرها، تجلس أمها التي لم تعد إلى خيمتها الممزقة بفعل القصف، تراقب تطورات حالة طفلتها الصحية، وتراقب معها تحوّلها من طفلة نشيطة مفعمة بالحياة، تملأ أجواء النزوح القاسية بابتسامتها و"فهمها الكبير"، إلى حالة مأساوية؛ صوتها صمت، وضحكتها غابت، وجسدها مكبّل بالسكون.

photo_2025-06-01_16-13-03 (2).jpg
 

ألعابٌ بجانب سريرها، وملابس جديدة ترتديها، لكنها لا تخفف شيئًا من المشهد القاسي. تلك الألعاب لم تعد ميرا قادرة على لمسها، كما كانت قبل الإصابة. والخيوط الجراحية التي تملأ رأسها شاهدة على كسرٍ غائر، وعلى دموية حربٍ خلّفت ندوبًا لا تُمحى. كل شيء ساكن حولها... إلا ألمها، الذي تعبّر عنه بالصراخ المستمر، في وضعٍ يفتّت قلب والدتها، التي تصرخ باكية في أروقة المستشفى: "البنت بتموت مني، حدا يساعدني تسافر، أو نشوف إلها حل يسكّن ألمها".

خيمة عاجزة

في 21 مايو/أيار 2025، كانت ميرا تجلس في حضن والدتها داخل خيمة نزوح، عندما قصف الاحتلال منزلًا مجاورًا، ما أسفر عن مجزرة بحق عائلة أبو شمالة. تطايرت الشظايا والركام والدخان، واخترقت الخيمة القماشية التي لم تتمكن من حماية الطفلة، في مأساة تتكرر يوميًا مع النازحين.

تقول الأم بصوت مليء بالقهر: "كنا بقرب البنات، ومع ذلك أصيبوا. المشهد كان مرعبًا. طفلتي أُصيبت، وتدمرت الخيمة، وفقدنا كل أمتعتنا. المنزل المستهدف كان مكوّنًا من أربعة طوابق. الاستهداف خلف دمارًا هائلًا".

وعلى مدار عشرة أيام، لم تغادر الأم أبواب العناية المركزة. "الأطباء قالوا لي: بنتك شبه شهيدة من شدة حالتها"، تتابع بصوت حزين، وتضيف: "مرت علينا أيام صعبة. أفاقت بحالة صعبة، شلل نصفي، فقدان وعي، كسر في اليد والجمجمة، وفقدان للنطق. لم تعد تعرفني. وأحتاج لعدد من الممرضين لتثبيتها أثناء إعطائها الدواء بسبب حركاتها الاندفاعية".

وتتابع الأم: "لا تستطيع التعبير عن حالتها. المشفى قام بكل ما يمكن في ظل غياب الأدوية والإمكانيات. كل ما تحتاجه الآن هو تأهيل شامل وتخطيط دقيق لطبيعة إصابة الرأس، لكن هذا غير متوفر. حصلنا على تحويلة للعلاج بالخارج، لكنها لم تنفذ حتى الآن"، مطالبة منظمة الصحة العالمية بـ"إنقاذ حياة طفلتها قبل تدهور حالتها".

تستحضر اللحظات الأولى للاستهداف، قائلة: "عندما رأيت طفلتي مصابة، أُغمي عليّ، وعندما أفاقت على هذا الوضع، أُغمي عليّ مجددًا. ما ذنب طفلة بريئة، عمرها أربع سنوات؟ ما ذنبها في أن تُحرم من حقها في العلاج؟ الإمكانيات الطبية هنا محدودة، لا أجهزة، ولا أدوية، ولا تأهيل".

انتظار مرهق

في كل ساعة ويوم يمضي، تبقى الطفلة ممدّدة في سريرها، وحالتها تتدهور أمام عيني والدتها التي لا تملك سوى الانتظار. "أخاف أن أفقدها في هذا الانتظار المرهق"، تقول، وهي تمسح دموعها.

"جاءتني ميرا بعد سبع سنوات من إنجابي شقيقتها الكبرى، ماري (10 سنوات)، وأصغرها أيلا (سنة). كنت متعلقة بها كثيرًا"، تصفها بـ"الحبوبة، المرحة، طريقتها بالكلام جميلة. أي شخص يراها يحبها". تحاول الأم التماسك أمام دموع تغالب صوتها.

من واقع فقدت فيه ميرا حركتها وحيويتها، تقفز أمام والدتها صورٌ من حياة الطفلة قبل الإصابة. "كانت ما شاء الله عليها، متفوقة، تجيد الحروف الأبجدية كتابة ونطقًا بالعربية والإنجليزية. كانت لغتها قوية، وحفظت جزء 'عمّ' من القرآن. كنا نُعدّها لمدرسة خاصة".

تمنت ميرا أن تصبح طبيبة. لم يكن ذلك مجرد حلم، بل كانت تمارسه يوميًا وهي تلعب مع الأطفال. تحضر ألعابها، وتحاكي ما يقوم به الأطباء مع المرضى والمصابين. "كانت دائمًا تقول لي: 'ماما، أنا لما أكبر راح أصير دكتورة وأعالج المصابين'.. لكنهم قتلوا حلمها".

نجت ميرا من استهدافين سابقين. مع بداية الحرب، أصيبت مرتين إصابات طفيفة بسبب قصف قريب، لكنّ الخوف لم يفارقها، وكانت تردده دومًا لأمها: "ماما، إحنا متنا مرتين". بهذه العبارة، عبّرت الطفلة عن إدراكها المبكر لمعنى الإصابة في زمن الحرب، وعن طفولة يُسرق منها كل يومٍ شيءٌ جديد.

 

المصدر / فلسطين أون لاين