في لحظات قاسية اختلطت الدموع على فراق ابن غالٍ، مع دموع استقبال مولود جديد، كانت في الأصل دموع فرح، ولكن في قوانين الاحتلال الإسرائيلي لا يوجد إلا البطش والقتل، ولدت "حياة" يتيمةً، كُتبَ عليها ألّا ترى والدها الشهيد أحمد أبو عرمانة (29 عاما) الذي كان متشوقا لقدومها، قبل استشهاده وستة آخرين، يوم الإثنين الماضي حينما قصف الاحتلال نفقا للمقاومة شرق خان يونس.
حياةٌ أخرى
سيطر على أجواء استقبال الوافدة الجديدة "حياة" مشهدان متناقضان، مشهد للأهل المنشغلين بمراسم عزاء الشهيد، ومشهد لجزء آخر من الأهل يهتمون باستقبال المولودة الجديدة والاطمئنان عليها وعلى صحة والدتها المكلومة على فراق زوجها، وهي تدرك أن الحِمل سيكون ثقيلا من بعده في تربية أربعة أطفال يتمهم الاحتلال.
عن ذلك يقول أحمد أبو حماد شقيق زوجة الشهيد التي لم تستطع الحديث لـ"فلسطين" نظرا لظروفها الصحية: "كانت أجواء الولادة صعبة، فخبر استشهاد أحمد كان صادما لشقيقتي، وعلى إثر الصدمة ذهبنا بها إلى المستشفى، وفي اليوم التالي وضعت مولودتها حياة".
ويضيف عن سبب اختيار اسم المولودة: "اخترنا هذا الاسم لأن الله اصطفى والدها شهيدا، وبعث لنا حياة أخرى، فساعد وجود حياة الصغيرة على رفع معنويات والدتها" .
بالعودة إلى آخر ما كان قبل الاستشهاد، عاد أبو عرمانة من عمله في النفق الذي يشرف عليه في الخامسة فجرا من يوم الاثنين الماضي؛ وفي السادسة صباحا توجه إلى عمله المؤقت الذي يعمل فيه بنظام "البطالة"، وبعد عودته للمنزل، وأثناء تناول طعام الغداء، فإذا بمتصل يطلب النجدة: "الحقنا سفّق النفق تعال بسرعة".
"خليك تغدى" قالتها زوجته له قبل أن يخرج، فطمأنها "مش مطول، نصف ساعة وسأعود"، فكان الخروج بلا عودة، لا هو علم بذلك ولا هي أيضا.
على عجل، استقل أحمد دراجته النارية، شاهده شقيقه محمد الذي يروي بقية التفاصيل لـ"فلسطين": "حاولت إيقافه لخوفي عليه، لأنه كان في عجلة من أمره، فقد ظننت أن هناك مشكلة ما".
"في أمانة لازم أوصلها"، آخر ما قاله أحمد لشقيقه، ثم اتصل ببعض قادة "سرايا القدس" في المحافظة الوسطى، وذهب إلى النفق.
تتزاحم الكلمات في خاطره في التعبير عن حزنه على فقدان شقيقه، قائلا: "كل يوم يمر علينا نكبات سببها الاحتلال الإسرائيلي، نحن تعودنا على ذلك، لكنها كرامة من الله يضع الصبر في قلوبنا، للاحتساب والاستمرار بذات الدرب وطريق الجهاد حتى النصر، والثأر لدماء شقيقي ورفاقه من أبناء المقاومة، وكل دماء شهداء فلسطين وصولا لتحرير الأرض".
الأيام الأخيرة
في آخر أيامه زار الشهيد بعض أقاربه وجيرانه، حدّث شقيقه محمد حينها: "مش راح أحضر ميلاد زوجتي دير بالك على أولادي إن صارلي شي"، كأنه حدس داخلي شعر به.
محمد يسأل شقيقه قبل استشهاده بيومين: "كيف شايف المصالحة؟"، رد بنظرة المتأمل "الاحتلال لن يجعلها تتم إلا على رقابنا ودمائنا"، وسرعان ما كانت دماؤه ثمنا لأجل بلاده بالفعل.
ويُثني أبو عرمانة على شقيقه الشهيد: "كان حنونا على الجميع، يمازح الكل، اهتم في الفترة الأخيرة بوالديه، كان يخصص دخله المادي لترتيب مستقبل أطفاله الأربعة (ثلاث بنات وولد)، جهز احتياجات مولودته الجديدة حياة (من الإبرة للخيط)، كان متشوقا جدا لرؤيتها، وكان هو من حجز موعد إجراء عملية الولادة القيصرية لزوجته".
انضم الشهيد أحمد إلى حركة الجهاد الإسلامي قبل عشر سنوات، تدرّج في العمل المقاوم في الحركة منذ بداية انضمامه لها، عمل في الوحدة الصاروخية، وفي سلاح الأنفاق.
لطالما حذّره معارفه من خطورة نوع عمله، ولكن هذا الخطر كان محببا له، فهو السبيل الأسرع للقاء الله، لذا كان ردّه على التحذيرات دوما: "هذا الطريق الأقرب الذي يوصلني إلى الله، ويضرب الاحتلال في عقر داره"، كما أخبرنا شقيقه.
عُرف عن الشهيد تمتعه بالقوة والشجاعة، بأن له الكثير من المواقف الصلبة في الثبات في ميدان المعارك في لحظات القصف، وأنه كان يحرص على إطلاق الصواريخ في أحلك الظروف، وقد شارك في عدة كمائن خلال الحرب الأخيرة، بحسب أخيه محمد.