دمار وأشلاء ودماء، هكذا بدا المشهد نهارًا في مدرستي إيواء وكالة "أونروا" وسط مخيم البريج بعد مجزرتين داميتين نفذتهما طائرات الاحتلال الإسرائيلي ليلاً، دفعتا المواطن محمود عيسى للصراخ فوق أنقاض خيمته: "نازحين إحنا يا عالم! مدنيين أطفال ليش قصفتونا؟".
فقد عيسى خلال عملية برية عسكرية إسرائيلية ضد مخيم البريج في يناير/ كانون الثاني 2024م، منزله الذي اشتراه من "تعب وتحويشة العمر"، ولجأ لاحقًا إلى مدرسة إيواء "أونروا" التي تعرف جماهيريًا داخل المخيم باسم مدرسة "أبو هميسة".
"مثلنا مثل كل الناس.. حطينا (أقمنا) خيمة في ساحة المدرسة"، يتحدث الأب (50 عامًا) لستة أبناء عن حياته البسيطة داخل خيمة قماشية تسلمها مساعدة طارئة من "أونروا"، ويوما بعد يوم استطاع توفير بعض مستلزمات ومقتنيات الحياة وسط حرب الإبادة.
يضرب الرجل المقهور بكفيه: "فجأة.. لا دار ولا خيمة ولا أية حاجة.. بس أواعينا فقط!" هذا ما خرجت به العائلة التي خرجت من المدرسة قبل نحو 10 دقائق من المجزرة الأولى (عصر الثلاثاء) لمناسبة اجتماعية.
يصف المشهد بحرقة: "زلزال.. محرقة.. أشلاء وصراخ"، متسائلًا: "أين الدول العربية؟" مستهجِنًا: "لماذا لا يتعلمون من الغرب الذي ساند (إسرائيل) في إطفاء الحرائق التي اندلعت في غابات القدس المحتلة الأسبوع الماضي؟"، ويختم: "غزة مولعة نار منذ 18 شهرا دون استجابة عربية أو إسلامية!".
وإلى جانبه، جاره في الإيواء عبد الله ميط (40 عامًا) الذي وقف أيضًا على أنقاض خيمته "الممسوحة تمامًا" حسب وصفه، لكنه يحمد الله (عز وجل) على الإصابات "المتوسطة" التي أصابت أفراد أسرته.
"كنت واقفًا أمام باب المدرسة برفقة ابني.. وفجأة سقط الصاروخ الأول في ساحة المدرسة المكتظة بالخيام، والصاروخ الثاني نحو الجهة الأخرى لخيام النازحين أيضًا"، يتحدث الشاهد على المجزرة الأولى التي حدثت في مجزرة "أبو هميسة" الجنوبية.
يروي ميط: "رأيت جثامين الشهداء تتطاير في الهواء رغم الدخان والدمار الكثيف"، وهذا ما دفعني لاقتحام المشهد بحثًا عن الناجين، "وبالفعل بدأنا بإخراج النساء والأطفال سواء جرحى أو شهداء إلى خارج المدرسة".
"بيدَيّ أخرجت جثمان طفل كان معلقًا على سياج المدرسة (على النمروطي) وشقيقه (آدم) الذي عثرت على جثمانه بعيدًا 600 متر معلقًا على أحد الأشجار القريبة من أسوار المدرسة"، بيداه أيضًا يشير إلى سطح المدرسة، "من فوق السطح جمعت جثامين 5 شهداء بينهم طفل من أعلى سطح المدرسة".
يقاطعه في حديثه محمود عاشور (33 عامًا) مفيدًا بأن الناس سارت على قدميها لأكثر من 700 متر (أقرب نقطة طبية تقع عند مدخل المخيم) لإسعاف الجرحى أو لنقل جثامين الشهداء الأطفال.
عاشور الذي حمّل طفلاً جريحًا على يديه لم يعلم وقتها أن شقيقه الآخر جريح من شظايا القصف والدمار ليكمل طريقه سائرًا على قدميه نحو مستشفى العودة في مخيم النصيرات.
"خدعة المجزرة الثانية"
وبعدما حل الليل وتوقفت عمليات نقل الجرحى لمستشفى العودة ومستشفى الأقصى اللذان تكدست أسرتهما وأرضيتهما بأعداد الجرحى، ذهب بعض نازحي المدرسة المدمرة للمبيت عند أقربائهم في المدرسة المجاورة (الشمالية) ظنًّا منهم أن "المجزرة قد انتهت".
اتصال مفاجئ من ضابط إسرائيلي لأحد جيران المدرسة ياسر أبو عابدة (20 عامًا) يطلب منه إخلاء الناس من المدرسة الملاصقة لمسجد عباد الرحمن المجاور للمدرسة التي تعرضت للقصف أيضًا.
كـ"حال الناس احتمينا داخل مدرسة (أونروا) ولم نخرج منها، ظنًّا بأن القصف للمسجد"، يروي النازح علي النباهين (37 عامًا) المشهد ليلا الذي سادته الرعب والخوف في نفوس الأطفال والكبار.
دقيقة وراء أخرى تدافعت الناس للاحتماء بالفصول الدراسية بعدما خرجت من خيامها؛ لتفادي سقوط الشظايا عليها، "لكن الذي حدث أن الاحتلال قصف المدرسة بصاروخين، واحد في المدرسة المدمرة والثاني بين سور المدرستين.. ولم يقصف المسجد!".
بعد ذلك، يخبر النباهين: "لا أستطيع وصف ذاك المشهد.. دخان ونار وصراخ ودماء"، وهنا يستذكر مشهد إسعافه للجريح صبحي عيد الذي بتر الأطباء إصبعه وسط تدهور حاد في كف يده.
في صباح اليوم التالي للمجزرتين، أحصى المكتب الإعلامي الحكومي ارتقاء 33 شهيدًا و73 مصابًا من النازحين في مدرستي "أبو هميسة"، لكن الشاهد والناجي من المجزرتين "ميط" يرجح ارتفاع العدد لأعلى من ذلك.
ويقول: "غالبية الحالات التي أسعفناها خطيرة جدًا.. هذه صواريخ دمرت الحجر وقتلت البشر".
ليس هو وحده ما يقول ذلك، بل إن والد الطفل محمود الشقرة (14 عامًا) لا يزال يبحث عن طفله الذي فقده في المجزرة الأولى.
يتحدث الأب محمود بحرقة، الذي شاهد طفله مبتور القدم وجالسًا على الأرض يصرخ "يابا.. يابا" بعد الصاروخ الأول، وحينما ذهب لإسعافه باغت الطيران الإسرائيلي المدرسة بصاروخ ثاني تسبب بمصير مجهول للطفل.
"بحثنا في مستشفى العودة (النصيرات)، مستشفى الأقصى (دير البلح) عن محمود.. لا نزال نبحث بين الركام عن جثمانه"، فيما يرجح بعض الشهود "انصهار الجسد نتيجة قوة الانفجار".
يتمنى الرجل المكلوم العثور على جثمان نجله الذي صرخ بآخر كلماته "يابا.. يابا"، دون أن يتمكن الأب من إنقاذه أو العثور على جثمانه حتى اللحظة.
وباستهداف مدرستي "أونروا" يرتفع عدد المجازر ضد مدارس ومراكز النزوح إلى 234 مجزرة دموية طوال حرب الإبادة الإسرائيلية الجماعية على أكثر من 2.4 مليون إنسان في غزة المحاصرة برا وبحرا وجوا.

