﴿فَما وَهَنوا لِما أَصابَهُم في سَبيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفوا وَمَا استَكانوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصّابِرينَ﴾* آل عمران146
غزة، الجُرح النازف الذي لا ينحني، خرجت من بين الركام تهتف: "نعم، أنا أستطيع"، فعلى أرضها المحاصَرة، وبين شوارعها الرملية المكتظّة، نمت أعظم الإرادات واشتدّ عود الأبطال، فرغم الحصار والخنق والجوع والموت، كانت تُشعل في كل عقد انتفاضة، وتُشعل في كل عام ملحمة، حتى فاجأت الدنيا بطوفان الأقصى، فزلزلت حصون العدو، واخترقت بقرته المقدسه الموهومة، وسَطّر رجالها – بأجسادهم فقط – ما لم تفعله جيوش، وما حسبه العالم مستحيلاً، فإذا الضعف قوة، وإذا المحاصَر يفتح، وإذا المخنوق يصرخ في وجه التاريخ: "أنا لها"، ومضت كما مضى الرِّبِّيّون خلف الأنبياء، لا وهن، لا ضعف، لا استكانة، والله يحب الصابرين.
"نعم أنا أستطيع" شعار غزة في طوفان الأقصى، وما قدمته غزة وتقدمه يفوق قدرتها وطاقتها بمراحل، إذ كان المتوقع منها أقل بكثير من ذلك، فهي مساحة جغرافية محدودة تبلغ 360 كيلومترًا، وهي منطقة سهلية رملية تُعد الأكثر اكتظاظًا في العالم، حيث يسكنها 2.3 مليون نسمة.
وإلى وقت قريب، قبل أقل من عقدين، كانت تحت الاحتلال الصهيوني المباشر لأربعة عقود، ثم عانت من احتلال غير مباشر، وحصار، وقتل، وخنق لعقدين آخرين، مع قطع شرايين الحياة كلها عن غزة. فضلًا عن اقتصادها المتهالك والمرتهن للاحتلال حتى في ضرورات الحياة من ماء وكهرباء وغذاء، والتي تصل إليها بشكل شبه يومي عبر إذن الاحتلال، ضمن سياسة يتبعها منذ عقود في الحصار، تُبقي "الرأس فوق الماء" فقط، أي بالسماح بالحد الأدنى من ضرورات الحياة دون إيصال غزة إلى الغرق.
وخلال محطاتها المتعاقبة، كانت غزة تعيش نزالًا متواصلًا ومستمرًا مع الاحتلال بأشكال متعددة، وفي القلب منه المقاومة المسلحة والشعبية. ففي السبعينيات، خاضت غزة معارك في معسكرات اللاجئين وعمليات جيش التحرير، وفي الثمانينيات تطورت الوقائع النضالية إلى انطلاق انتفاضة شعبية من غزة. ومع نهاية التسعينيات، اندلعت انتفاضة الأقصى التي كانت أقرب إلى الانتفاضة المسلحة، وواصلت العمليات الاستشهادية التي بدأت مع نهاية انتفاضة الحجارة، حتى تُوجت انتفاضة الأقصى بفعل المقاومة باندحار الاحتلال عن غزة في عام 2005. ثم، في كل سنة تقريبًا، خاضت غزة معركة كبيرة مع الاحتلال، فضلًا عن جولات التصعيد المختلفة، من "الوهم المتبدد" إلى "الفرقان"، و"وفاء الأحرار"، و"حجارة السجيل"، و"العصف المأكول"، و"مسيرات العودة"، و"سيف القدس".
كان "طوفان الأقصى" المنفذ المستحيل وغير المتوقع، لا من غزة ولا من غيرها، ولكن رغم كل ما أصابها في محطات النزال والحصار قاطبة، خرجت غزة برجالها وفرسانها، الذين جسدوا رمز الإرادة والمقاومة، وحققوا المعجزة بالهجوم على "البقرة المقدسة" والحصن المنيع، الذي تهاوى أمامهم كبيت العنكبوت في ساعات قليلة. لتكون رسالة غزة، رغم ضعفها ووهنها وحصارها وقتلها على مدار عقود طويلة، واضحة: "نعم، أنا أستطيع. نعم، أنا لها."
فيمضون قدمًا، ويحثّون الخطى، ويلحقون بركب الأنبياء وما صاحبهم من الربِّيّين:
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 146).