في بلد يرفع شعارات "حرية التعبير"، ويقدّم نفسه بوصفه "منارة الديمقراطية في العالم"، يُعتقل طالب فلسطيني من داخل جامعته دون مذكرة توقيف، ويُجرّ إلى زنزانة نائية على بعد آلاف الكيلومترات من منزله، فقط لأنه رفع صوته منادياً بالحرية لفلسطين.
قصة محمود خليل، خرّيج جامعة كولومبيا والناشط الفلسطيني المحتجز في سجن فيدرالي بولاية لويزيانا، ليست مجرد حالة فردية، بل هي مرآة تكشف زيف الخطاب الأميركي الرسمي، وتعري ازدواجية المعايير التي تحكم تعاطي واشنطن مع القيم التي تدّعي حمايتها.
اعتقال بلا تهمة
في الثامن من مارس/ آذار الماضي، وبينما كان محمود خليل عائداً مع زوجته من عشاء، أوقفه عناصر من وزارة الأمن الداخلي، واعتدوا عليه أمام منزله، دون مذكرة توقيف، وقيدوه واقتادوه بسيارة بلا لوحات، في مشهد أشبه بأفلام الأنظمة القمعية.
لم يكن يعرف إلى أين يُؤخذ. زوجته، نور عبد الله، مواطنة أميركية، تعرّضت للتهديد أيضاً، وقيل لها إنها ستُعتقل إن لم تغادر المكان.
نُقل خليل إلى مراكز احتجاز متعددة، نام على أرض باردة في محكمة الهجرة في نيويورك بعد ان رفضوا إعطاءه بطانية، ثم في مركز احتجاز في نيوجيرسي، قبل أن يُرحّل إلى منشأة نائية في لويزيانا، تدار من قبل شركات خاصة، وتحيط بها الأسلاك الشائكة.
"أنا معتقل سياسي".. بهذه العبارة بدأ خليل رسالته التي كتبها من داخل السجن ونشرتها صحيفة "الغارديان" البريطانية. قال فيها إنه ضحية مباشرة لممارسته حقه في التعبير، حين طالب بمنح فلسطين حريتها وإنهاء الإبادة الجماعية في غزة.
لكن في أميركا دونالد ترامب، لم يعد هذا الحق مكفولا، وبدلا من أن يُكافأ الطالب النشيط، يُزج به في المعتقل، ويُنظر إليه "كمعاد للسامية"، حيث احتفى الرئيس الأمريكي شخصياً باعتقال خليل، وكتب منشوراً على مواقع التواصل قال فيه، إن "هذا الاعتقال كان الأول، لكن اعتقالات أخرى ستأتي ضد من ينظمون أعمالاً معادية للسامية في البلاد، وضد الذين يعادون (إسرائيل) ويكرهون أمريكا"، على حد قوله.
فيما حاول البيت الأبيض تبرير اعتقال الناشط الفلسطيني، حيث ادعت متحدثة البيت الأبيض كارولين ليفيت بمؤتمر صحفي، الثلاثاء، أن خليل يؤيد حركة "حماس".
وزعمت أن خليل نظم احتجاجات في الحرم الجامعي "وتسببت في تعطيل الدروس وهاجم الطلاب اليهود الأمريكيين، ما جعلهم يشعرون بعدم الأمان في جامعاتهم". كما ادعت أن خليل وزع منشورات تحمل شعار حركة "حماس" في المظاهرات التي شارك فيها.
وأضافت: "وزير الخارجية ماركو روبيو، يحق له بموجب قانون الهجرة والجنسية، إلغاء بطاقات الإقامة الدائمة، والتأشيرات للأشخاص الذين يعارضون مصالح الأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية".
خليل لم يكن وحده. عشرات الطلاب في جامعة كولومبيا واجهوا التحقيق والطرد لمجرد مشاركتهم في احتجاجات ضد العدوان على غزة. الجامعة نفسها فتحت أرشيفها للكونغرس الأميركي، ووافقت على تسليم سجلات الطلبة، في انصياع واضح لضغوط اللوبيات الموالية (لإسرائيل).
وفي رسالته، يتهم خليل رئيسة الجامعة مينوش شفيق، وقياداتها الإدارية، بأنهم "مهّدوا الطريق" لاعتقاله، من خلال قمع الطلاب، وإنشاء نظام تأديبي استبدادي لتكميم الأفواه، والسماح بنشر بيانات الطلاب المؤيدين لفلسطين على الإنترنت ضمن حملات التشهير.
استثناء فلسطيني
تصف الناشطة الأميركية من أصول عربية آية حجازي المرحلة الحالية بأنها "استثناء تاريخي" في السياسة الأميركية، لا سيما مع سياسات إدارة ترامب التي تعيد تشكيل المشهد الحقوقي بطريقة جذرية، تتجاوز ما عرفته البلاد منذ الحرب الباردة.
وتقول حجازي، لـ "فلسطين أون لاين"، إن ما يتعرض له محمود خليل وطلبة الجامعات المؤيدين لفلسطين ليس معزولًا، بل يندرج ضمن حملة أوسع تستهدف المهاجرين كافة، مشيرة إلى قرارات ترحيل تطال أكثر من 400 ألف مهاجر، وإلغاء للبرامج التي كانت توفّر حماية صحية أو دعمًا للفقراء وكبار السن".
وتلفت إلى أنّ ما يجري اليوم يختلف عن كل الإدارات الأميركية السابقة: "إدارة ترامب لا تضيق فقط على الفلسطينيين، بل على أي صوت معارض، أي فقير، أي مهاجر. إنه زمن غير مسبوق".
لكنها تشير في الوقت ذاته إلى "استثناء فلسطيني" له أبعاد خاصة، وترى أنّ الفلسطينيين يواجهون تضييقًا مضاعفًا لأسباب متعددة، من بينها "الهيمنة الصهيونية على مؤسسات الحكم والإعلام، سواء من خلال اللوبيات اليهودية الصهيونية أو المسيحية الصهيونية، وأيضًا عقدة الذنب الغربية تجاه المحرقة، التي جعلت من انتقاد (إسرائيل) مرادفًا لمعاداة السامية".
وتضيف: "هناك تشويه متعمد للنقاش حول فلسطين، ومحاولة لإسكات أي صوت يطالب بحقوق شعبها، باعتباره تهديدًا وجوديًا لليهود، وهذا غير عادل ومضلّل.
وبينما ينتظر خليل حكم القضاء الفيدرالي في نيوجيرسي، حيث لا يزال الترحيل موقوفاً مؤقتاً، تتصاعد الأصوات المطالبة بحريته، وتُطرح أسئلة صعبة عن وجه أميركا الحقيقي.
ووصف الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، ما يحدث بأنه “وصمة عار على بلد يدّعي حماية الحريات”، واتهم إدارة ترامب بـ”تسليح جهاز الهجرة والجمارك، لمعاقبة أشخاص بسبب ممارستهم حقهم في التعبير المشروع”.
وقالت النائبة رشيدة طليب “لا يمكننا السماح لإدارة ترامب بإنهاء حقوقنا الدستورية.. فالحق في حرية التعبير يشمل بوضوح الحق في الاحتجاج على إبادة الحكومة الإسرائيلية للفلسطينيين.. هذه الفاشية لن تتوقف عند محمود خليل. إنها تهديد لنا جميعًا”.
أما النائب الديمقراطي جيري نادلر، عضو “الكونغرس”، فقال “استهداف مقيم دائم لم تُوجَّه له أي تهمة جنائية فقط بسبب ممارسته لحقه في حرية التعبير المكفول بالتعديل الأول-بغض النظر عن مضمون هذا التعبير المحمي.. هو أمر مثير للرعب وخاطئ تمامًا".
وفي رسالته، كتب خليل: "قد أكون في زنزانة الآن، لكنني أراكم في الساحات. لا تتوقفوا. صراخكم هو صوتنا، وحريتكم هي حريتنا. وحتى إن لم أكن حراً حين يولد طفلي الأول، فأنا مؤمن بأن هذه المعركة تستحق".