يمرر صهيب حمد يده بثقل شديد على ساقه اليسرى كأنه يحاول مسح الألم الذي يسكنها، فلا يجد سوى الضمادات التي تحيط بها من كل جانب. ينظر إليها بعينين ممتلئتين بالأسى وهو يتمتم: "متى أشفى من الإصابة وأتمكن من السير والركض مجددًا؟".
بين أروقة مستشفى المعمداني في قلب مدينة غزة، يجلس صهيب بانتظار دوره بين عدد كبير من الجرحى الذين أصيبوا من جراء حرب الإبادة الجماعية التي بدأها جيش الاحتلال يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
الشاب البالغ من العمر 20 عامًا كان قد أصيب بنيران الاحتلال عند مفترق الكويتي في شارع صلاح الدين، جنوبي مدينة غزة.
فقبل عامٍ من الآن، وتحديدًا يوم 23 مارس/ آذار 2024، غادر صهيب منزله الكائن في حي الزيتون، جنوبي مدينة غزة، متوجهًا إلى مفترق الكويتي، حيث تجمع عشرات الآلاف من المواطنين في محاولة يائسة لالتقاط ما يمكنهم من المساعدات الإغاثية، بعد أيام طويلة من الجوع الذي صار ضيفًا ثقيلًا على كل بيت.
لم يكن يريد أكثر من رغيف يسد به رمق والدته وأفراد عائلته، لكنه لم يكد يمد يده لسحب كيس من الدقيق (الطحين) حتى اخترقت رصاصة متفجرة ساقه، بعدما أطلقت دبابة إسرائيلية صليات متتالية منها.
سقط صهيب أرضًا حينها، وتركته الإصابة بين الحياة والموت، لولا أن بعض الشبان استطاعوا انتشاله من أسفل الشاحنات التي تقل المساعدات وأقدام المواطنين الجائعين المتهافتين على انتزاع لقمة العيش.
في ذلك الحين، كانت المجاعة التي رافقت حرب الإبادة وتصاعدت وتيرتها بفعل الحصار الإسرائيلي المشدد، قد بلغت أوجها، خاصة في محافظتي غزة والشمال، اللتين فصلهما جيش الاحتلال عن باقي محافظات القطاع بواسطة ما يسمى "محور نيتساريم".
وكانت شاحنات المساعدات تمر عبر هذا المحور، وتحديدًا من خلال نقطتين مركزيتين يتحكم بهما جيش الاحتلال، وهما مفترق النابلسي على شارع الرشيد غرب غزة، ومفترق الكويتي على شارع صلاح الدين شرقًا.
وقد فضّل صهيب التوجه إلى مفترق الكويتي بسبب قربه من منطقة سكنه. "رأيت الموت بعيني، لكن لم يكن أمامي أي خيارات أخرى، فلم يكن لدينا ما نأكله."
بعد وصوله إلى المستشفى، خضع صهيب لسلسلة عمليات معقدة بلغ عددها ثماني عمليات، بعدما اكتشف الأطباء أن ساقه مصابة بجروح بليغة وهي على وشك البتر. وقد لجأوا إلى غرس قضبان بلاتين فيها للحفاظ على تماسكها.
في وقت لاحق، أصيبت ساقه بالتهابات شديدة في العظم، ما أجبر الأطباء على استئصال الجزء التالف منه وإزالة البلاتين، والاكتفاء بوضع اللفافات الطبية والضمادات فقط، مع إجراء عمليات تنظيف لجروحه باستمرار.
"يوميا أتواجد في المستشفى ليتابع الأطباء حالتي. غيابي ليوم واحد قد يسبب لي مشاكل صحية كبيرة"، قال صهيب لـ "فلسطين أون لاين"، وهو يرقد على كرسي حديدي ويقبض بقوة على عكازه.
قبل الحرب، كان صهيب يركض في ساحات حي الزيتون، يراوغ أصدقاءه بكرة القدم التي يحبها حد العشق، ويعود إلى المنزل محمّلًا برائحة السكر والفانيليا بعد يوم طويل في صنع الحلويات في أحد أشهر محال الحلويات في قطاع غزة، وهي هوايته الثانية التي ورثها.
أما الآن، فهو لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة دون عكازه بفعل الإصابة التي أسقطته من مضمار الحياة إلى أروقة المشافي بحثًا عن العلاج.
"أشعر أنني مسجون داخل جسدي، كما أنني مسجون داخل غزة"، قال صهيب وهو يحدق في ساقه، وكأن الإجابة مكتوبة عليها.
ورغم أن الكرة لم تعد رفيقة قدميه كما كانت، إلا أن صهيب لا يزال يحمل شغفًا لا يستطيع الاحتلال قتله. يحلم بأن يعود إلى ساحات كرة القدم ليسجل الأهداف بدقة، كما كان يفعلها بنفس الساق المقيدة بالجروح العميقة. يحلم أن يعود إلى صناعة الحلويات، أن يشعر بطعم الحياة مرة أخرى بعيدًا عن مرارة الإصابة والحصار.
أما الآن، فهو يكتفي بالنظر إلى ساقه دون أن يفعل شيئًا، منتظرًا حقه في السفر أو معجزة تفتح أمامه أبواب العلاج الموصدة بقرار إسرائيلي يحول دون سفر جرحى الحرب إلى مستشفيات الخارج، رغم حصوله على تحويلة قبل أكثر من ثلاثة أشهر.