امتزجت دموع الفرح بالحنين، عندما عاد بلال الغماري، ابن غزة، إلى أحضان عائلته بعد رحلة اعتقال مريرة عاش خلالها أصعب أيام حياته.
تحرر بلال ضمن صفقة "طوفان الأحرار"، التي أبرمتها المقاومة مع الاحتلال الإسرائيلي عبر الوسطاء، والتي انتزعت خلالها حرية المئات من الأسرى الفلسطينيين، بينهم بلال، الذي قضى شهورًا طويلة في سجن "سدي يتمان" سيئ السمعة، أو كما يسميه الأسرى "المسلخ".
بلال، الذي لم يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره، تحدث لصحيفة "فلسطين" بنبرة ممزوجة بالألم والأمل وهو يسترجع تفاصيل أيام اعتقاله القاسية، قائلاً: "قبل عام من الآن، وفي مثل هذه الأيام المباركة من شهر رمضان، كنت معتقلاً في مسلخ سدي يتمان التابع لجيش الاحتلال الإسرائيلي، كنا هناك نتمنى حياة تليق بالبشر، بل كنا نحلم بحياة تشبه تلك التي تعيشها الحيوانات المشردة، فقد كانت أفضل حالًا منا".
لم يكن سدي يتمان مجرد سجن، بل كان مسلخًا حقيقيًا، بحسب وصف بلال. فمنذ لحظة وصوله إلى هذا المكان، بدأ مسلسل العذاب الذي لا ينتهي. يقول: "كنا نمكث هناك عادة قرابة 100 يوم متواصلة، معصوبي الأعين، مقيدي الأيدي طوال الوقت. تخيل أن تقضي كل تلك الأيام تأكل وتشرب وتنام وتقضي حاجتك وأنت مقيد اليدين، معصوب العينين. لا لحظة راحة، ولا مجال لأن تشعر أنك إنسان".
خلال فترة وجودهم، كان الأسرى يُجبرون على الجلوس على ركبهم أكثر من 18 ساعة في اليوم، في وضعية مؤلمة تتسبب في آلام مبرحة للظهر والركبتين، بينما يصرخ الجنود فوق رؤوسهم، ويعتدون عليهم بالضرب والتنكيل عند أدنى حركة. يصف بلال المشهد: "كان الجلوس بهذه الطريقة لأكثر من 18 ساعة هو أحد أشكال التعذيب التي لا تنتهي، وإذا حاول أحدنا تغيير وضعية جسده، أو تحريك يده، أو حتى رفع رأسه، كان الرد الفوري هو الركل والضرب دون رحمة".
لم يكن الأمر مجرد إهمال أو قسوة عادية، بل كان برنامجًا ممنهجًا صُمم لانتزاع كرامة الإنسان وسحق إرادته. يؤكد بلال أن الاحتلال استخدم كل أدوات التعذيب النفسي والجسدي بهدف "كي الوعي الفلسطيني"، كما يقول، في محاولة لكسر الأسرى وإجبارهم على التنصل من مبادئهم الوطنية.
ويضيف: "الطعام كان سلاحًا آخر في يدهم. كنا نتلقى وجبات لا تصلح حتى للبهائم، أحيانًا قطعة خبز يابسة وماء لا يصلح للشرب. كانوا يتركوننا نتضور جوعًا لساعات طويلة، ويفرضون علينا حصارًا في كل تفاصيل الحياة اليومية، حتى العلاج الطبي كان محرومًا عنا، يتركون المرضى يتألمون، دون دواء أو رعاية، فقط لتعميق المعاناة".
ويستذكر بلال أيام رمضان الماضية، التي قضاها خلف القضبان، قائلاً: "كان شهر رمضان بلا طعم، بلا روح، لم نكن نعرف متى نُفطر أو متى نصلي، كانوا يتعمدون إخفاء الأوقات عنا، ويقتحمون الزنازين لحظة الإفطار إذا توافر لنا شيء نأكله أصلاً".
ويضيف: "كنت أحاول أن أثبت وأصبر، أقرأ القرآن في قلبي، أصلي جالسًا مقيدًا، وأدعو الله في كل لحظة أن يفك أسرنا وينجينا من هذا الجحيم".
صورة رفاقه
بلال، الذي عانق الحرية قبل أيام، يقول إن لحظة خروجه من السجن كانت بمثابة ميلاد جديد له. "حين علمت أنني ضمن الأسرى الذين ستفرج عنهم المقاومة، لم أصدق في البداية. كان قلبي يسبقني إلى أهلي وأطفالي، كنت أحلم فقط برؤية والدتي وأبي، وأطفالي الذين لم أعد أذكر ملامحهم بعد شهور من الظلمة والحرمان".
لكن فرحة بلال لم تكتمل، فبينما تنسم عبير الحرية، لم تغب عنه صورة رفاقه الذين ما زالوا يقبعون خلف الأسوار. يقول بلال: "آلاف الأسرى ما زالوا هناك، يتجرعون المرارة، يعانون نفس ما عانيناه وربما أكثر. واجبنا الآن أن نبذل كل جهد من أجلهم، واجبنا الإنساني والديني أن لا ننساهم ولو لحظة".
قبل أن ينهي حديثه، وجّه بلال رسالة إلى أبناء شعبه، قائلاً: "لن تكون حريتي كاملة إلا بحرية إخواني في الأسر، لا تنسوهم من دعائكم في هذه الأيام المباركة، ولا تبخلوا عليهم بالدعم والمناصرة. الأسر في سجون الاحتلال هو موت بطيء، لكن أسرانا ما زالوا أحياء بإرادتهم وصبرهم وصمودهم".
بهذا الأمل والإصرار، يواصل بلال حياته خارج السجن، لكنه يحمل داخله قضية لم ولن ينساها أبدًا، قضية الأسرى الذين ينتظرون لحظة الخلاص من سجون الاحتلال الإسرائيلي، كما انتظر هو، حتى جاء اليوم الذي ولد فيه من جديد.