على غير عادته، استقبل أبو حنين انصيو شهر رمضان هذا العام بدموعٍ لا تتوقف وحنينٍ يحرق القلب. لم يعد البيت كما كان، لم تعد هناك عزائم رمضانية، ولا صوت ضحكات الأطفال، ولا أجواء السهر حول موائد الإفطار. لقد غابوا جميعًا، 15 فردًا من العائلة رحلوا بصاروخ واحد، ولم يبقَ إلا هو وابنه حمدي وابنته حنين، ناجين من مجزرة النصيرات التي محا فيها الاحتلال الإسرائيلي عائلة بأكملها في صباح يومٍ كان من المفترض أن يكون عاديًا.
كان ذلك في صباح يوم سبت من شهر مارس العام الماضي، حين كانت العائلة تستعد ليوم جديد من النزوح والبحث عن الحياة وسط الركام والموت الذي يحيط بهم من كل جانب.
يقول حمدي انصيو، الناجي الوحيد من بين إخوته، وهو يستذكر ذلك اليوم المريع:
"كنت معتادًا على البقاء في المنزل، لكنه كان صباحًا مختلفًا، خرجت لتلبية احتياجات العائلة، وعندما عدت، كان كل شيء قد انتهى.. المنزل الذي كان يضج بالحياة قبل دقائق أصبح حطامًا، وأحبابي تحت الأنقاض."
وقف حمدي مذهولًا أمام المشهد.. البيت المدمر، صرخات العالقين تحت الركام، ويداه المرتجفتان تحاولان رفع الحجارة باحثًا عن أمه، عن إخوته، عن أي ناجٍ. لكنه لم يجد إلا الجثث.
"استشهدت أمي، وأختي سارة، وزوج أختي حنين وأطفالها، وأخي باسل، وأخي أحمد، وأبناء أختي وخالتي وأبناء خالتي.. لم يبقَ إلا أنا وأبي وأختي."
يضيف حمدي بصوت يخنقه الألم: "استخرجنا جثامين أحبابنا بأيدينا من تحت الأنقاض، حملناهم واحدًا تلو الآخر.. الأطفال كانوا صغارًا جدًا، لا ذنب لهم، ولكن الاحتلال لم يرحمهم."
لم يكن رمضان هذا العام كما كان في السنوات الماضية. جلست العائلة الصغيرة المتبقية حول مائدة الإفطار، لكن الكراسي كانت فارغة، والأصوات التي اعتادت أن تملأ المكان كانت غائبة.
"أمي كانت نوارة البيت.. كان رمضان معها مختلفًا، كانت تملأ البيت حيوية، تحضر الطعام بنفسها، تعد لنا العزائم، تهتم بكل التفاصيل الصغيرة.. اليوم نفتقدها، نفتقد كل شيء."
يستذكر حمدي كيف كان رمضان يجمعهم حول مائدة واحدة، وكيف كان الأطفال يضحكون وهم ينتظرون أذان المغرب، وكيف كانت العائلة كلها تمدح طعام والدته، مهارتها في الطهي، تفاصيلها الصغيرة التي كانت تجعل رمضان أجمل.
"لم يعد رمضان كما كان.. البيت فارغ، مليء بالحزن، لا أم، لا إخوة، لا أصوات، لا حياة."
أما أبو حنين، رب العائلة، فقد خرج من تحت الأنقاض حيًا، لكن قلبه بقي هناك، مدفونًا مع زوجته وأبنائه وأحفاده.
يقول الرجل الستيني بصوت مختنق: "لا أستطيع وصف الألم.. فقدت عائلتي كلها، كيف يمكنني أن أعيش رمضان بدونهم؟ كيف يمكنني أن أجلس على مائدة الإفطار دون أن أسمع صوت أمي حنين وهي تنادينا لنأكل؟"
يحن أبو حنين إلى طبخات زوجته الراحلة، كان لا يأكل في رمضان إلا من يديها، وكان الجميع يشيد بطعامها. لكن هذا العام، لم يعد هناك من يطبخ، ولم يعد هناك من ينتظر الطعام.
"هذا رمضان حزين جدًا.. لا يشبه أي رمضان عشناه من قبل."
ما زالت العائلة تحاول التأقلم مع الحياة بعد الفقدان الكبير، لكن الفراغ كبير جدًا، والخسارة لا تُعوّض. في كل زاوية من البيت هناك ذكرى، في كل لحظة هناك وجع، وفي كل يوم هناك سؤال لا إجابة له: لماذا نحن؟ لماذا فقدناهم جميعًا؟
يختم حمدي حديثه وهو ينظر إلى صورة والدته وإخوته التي يضعها على الحائط:
"نحن نعيش، لكننا لسنا أحياء.. نحن مجرد ناجين من الموت، لكن أرواحنا رحلت معهم."
ورغم الألم الذي لا يُحتمل، تحاول عائلة انصيو أن تواصل حياتها. حمدي وأبوه وأخته حنين يعيدون بناء ما تبقى من حياتهم، محاولين إيجاد معنى جديد للوجود بعد الخسارة الفادحة. يقول حمدي: "نحن نعيش يومًا بيوم، نحاول أن نجد شيئًا يعيدنا إلى الحياة، لكن الفراغ كبير."
ويضيف: "نحن نعيش من أجل ذكراهم، من أجل أن نحافظ على ما تبقى من عائلتنا. لن نسمح للاحتلال أن يقتل أرواحنا كما قتل أحبابنا."
يتوجه حمدي برسالة إلى العالم: "نحن نعيش في ظل حرب لا ترحم، نعيش تحت القصف والدمار، لكننا لن نستسلم. يجب أن يعرف العالم ما نعانيه، يجب أن يرى العالم جرائم الاحتلال بحق المدنيين الأبرياء."
ويختتم: "نحن نحتاج إلى دعم العالم، إلى وقفة إنسانية توقف هذه المأساة. نحن نعيش من أجل أن نحكي قصتنا، من أجل أن لا تُنسى جرائم الاحتلال."
عائلة انصيو، مثلها مثل آلاف العائلات في غزة، تواصل حياتها رغم الألم، رغم الخسارة، رغم الفراغ. هم رمز للصمود والتأقلم في وجه المأساة، يحاولون أن يعيدوا بناء حياتهم من بين الركام، حاملين معهم ذكرى أحبابهم الذين رحلوا، ولكنهم لن يرحلوا من قلوبهم أبدًا.