يقول المثل العربي: "مجنون يحكي وعاقل يسمع"، والمجنون هنا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومعه طفله المدلل، الإرهابي مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، أما العاقل فكان الفلسطيني وكل من يؤمن بعدالة قضيته وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته على كامل أرضه التاريخية، والقدس عاصمته الأبدية.
يظن السيد ترامب أنه، في عصرنا هذا، يستطيع إعادة سيناريو أسلافه الأوروبيين الذين أبادوا الهنود الحمر وجعلوا وجودهم مجرد ذكرى في كتب التاريخ لإنشاء الولايات المتحدة الأمريكية، ويريد استنساخ تلك التجربة بالكامل على أرض فلسطين، معتقدًا أن من سبقه من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية ورؤساء وزراء بريطانيا لم يتمكنوا من تنفيذها بالكامل عام 1948. فخرج علينا بترهات وخزعبلات لا تصدر إلا من أفواه مجانين أو مستعمرين ما زالوا عالقين في القرن التاسع عشر، يشرح فيها عن نيته تهجير سكان قطاع غزة قسرًا، ومن يرفض الخروج هدده أمام العالم كله بأنه سيكون أعنف من إسرائيل نفسها معه، وكأن الشعب الفلسطيني يعير اهتمامًا للاحتلال الإسرائيلي أساسًا كي يهتم برجل برتقالي معتوه، ظن نفسه رب الكون من فرط جنونه.
حتى أنه تجاوز كل الحدود الدبلوماسية، وراح يهدد مصر والأردن علنًا ويصادر قراراتهما السيادية على أراضيهما، متحدثًا بصيغة الأمر، بأنه يجب عليهما قبول مشروع التطهير العرقي الذي طرحه، بل والمشاركة فيه دون أي اعتراض. فهو يريد نقل سكان غزة إلى مصر والأردن بدون حق العودة، والسيطرة على القطاع بالكامل وتحويله إلى "ريفييرا جديدة"، كما تشدّق. أما بخصوص الضفة الغربية وضمها إلى إسرائيل رسميًا، فقال إنه سيخرج قريبًا ليعلن رأيه في هذا الموضوع الشائك، وربما لسنا بحاجة لانتظار مؤتمره المقبل، الذي قد يعلن فيه تهجير سكان الضفة أيضًا دون حق العودة، وإغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائيًا. فقد بات كل شيء واضحًا اليوم، ولم تعد المؤامرات ضد الشعب الفلسطيني تُحاك في الخفاء أو من تحت الطاولة، بل أصبحت تُعرض أمام العلن بكل وقاحة، مع ابتسامات ساخرة وضحكات حمقاء هنا وهناك، دون أي خوف من العواقب. كيف لا، والعالم كله نائم، والأمة الإسلامية في سبات طويل!
ولا ننسى أيضًا انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من مجلس حقوق الإنسان، الذي ادعى ترامب أنه منظمة "معادية للسامية". فهو يجهز نفسه جيدًا لحرب ضروس، تكون فيها الإبادة الجماعية والتطهير العرقي روتينًا يوميًا، وليس من مصلحته أن يكون ضمن أي منظمة تدعو لحماية حقوق الإنسان، فهو بريء من الإنسانية وقوانينها جمعاء.
لم يكتفِ ترامب المتخبط بذلك، فقد خرج في اليوم التالي لإعلانه مشروع التطهير العرقي للفلسطينيين في غزة، وبعد موجة الاستهجان والرفض الكبيرة عربيًا وإسلاميًا ودوليًا، ليؤكد أنه رغم أن الجميع "فرح" بخطته، إلا أنه ليس في عجلة من أمره لتنفيذ "مشروعه العقاري"، كما سماه، في قطاع غزة. وبعدها، خرج مرة أخرى ليضيف خزعبلات جديدة، كإعطاء بعض أراضي القطاع إلى بعض الدول في الشرق الأوسط لمساعدته في إعادة إعمارها تحت إشرافه، وأنه لا يحق للفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم قسرًا العودة إليها.
في هذه الأثناء، كانت الفجوة بين حماس وإسرائيل قد أصبحت كبيرة جدًا بشأن اتفاق وقف إطلاق النار، الذي لم يلتزم نتنياهو بتنفيذ بنوده، كتأخير السماح لسكان شمال القطاع بالعودة إلى أراضيهم، وتقييد خروج المصابين وعائلاتهم من القطاع للعلاج المستعجل، ومنع إدخال المساكن المؤقتة والخيام المنصوص عليها في الاتفاق. حينها، خرج الناطق العسكري باسم كتائب عز الدين القسام، "أبو عبيدة"، ليعلن تأجيل الإفراج عن عدد من الأسرى الإسرائيليين، الذين كان من المقرر الإفراج عنهم يوم السبت المقبل، إلى حين التزام إسرائيل بتنفيذ بنود الاتفاق حرفيًا.
عندها، خرج ترامب مجددًا ليهدد حماس بأنه سيفتح أبواب الجحيم عليها وعلى سكان غزة، إن لم يتم تسليم جميع الأسرى الإسرائيليين قبل الساعة 12 ظهرًا من يوم السبت، وسيعتبر اتفاق وقف إطلاق النار قد انتهى رسميًا، إضافةً إلى ابتزازه لمصر والأردن وتهديده بوقف إرسال المساعدات الأمريكية لهما، إن لم يقبلا باستقبال سكان غزة.
وهنا، نتأكد من أن أولئك الذين في البيت الأبيض لم تصلهم الأخبار بعد، بأن الفلسطينيين قد ذاقوا بالفعل كل أنواع الإبادة والقتل والتنكيل، ولا يوجد جحيم أكبر من ذاك الذي عاشوه لأكثر من 15 شهرًا على يد مجرم الحرب نتنياهو، الذي دفعه جنون العظمة إلى تهديد السعودية علنًا بتقسيمها لإقامة دولة فلسطينية على أراضيها!
يبدو أن السيد دونالد ترامب لم يقرأ التاريخ الفلسطيني يومًا، ولم يفهم بعد العقلية الفلسطينية المبنية على الثبات والتحدي والمقاومة. ولم يتذكر أن الفلسطينيين الذين تهجروا قسرًا في نكبة 1948 ونكسة 1967، ورغم شح السلاح والمال حينها، استأنفوا مقاومتهم من العدم ضد الاحتلال الإسرائيلي، من الدول التي تم تهجيرهم إليها قسرًا، وبأعداد أكبر بكثير مما كانت عليه المقاومة إبان النكبة. لقد أوجعوا الكيان الإسرائيلي كثيرًا داخل فلسطين المحتلة وخارجها، ومطارات العالم تشهد، كما تشهد شواطئ وشوارع وحافلات تل أبيب وحيفا وغيرها من المدن المحتلة.
فنيران مقاومة شعب لم تخمد منذ أكثر من 100 عام ضد الاستعمار البريطاني، ومن بعده الاحتلال الصهيوني، الذي جلبه البريطانيون أنفسهم، لن تتوقف اليوم أمام الاحتلال الأمريكي-الإسرائيلي، بل سيزداد حجمها وقوتها ولهيبها، وسيتزايد عدد الفدائيين حتى يصبح كل فلسطيني فدائيًا مقاومًا بالحجر والقلم والسلاح والكلمة. فالفلسطينيون لم ولن يكونوا "هنودًا حمر جدد"، مهما كلفهم الأمر من تضحيات. فهم من سيكتبون التاريخ، وليس التاريخ من سيكتبهم. فهل ترامب وإدارته، ومعهم حكومة اليمين المتطرف الصهيونية في تل أبيب، مستعدون لجحيم مضاد سيجلبه لهم الفدائي الفلسطيني؟