لا دبابات، لا ثكنات، لا آليات، ولا حواجز عسكرية إسرائيلية وسط القطاع، بعد خمسة عشر شهرًا من قتال المقاومة الفلسطينية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي في "محور نيتساريم"، وتحقيق وعدها لشعبها بدحر الاحتلال عن غزة، والإفراج عن الأسرى، لاستكمال الانتصار الذي بدأته في عبور مقاوميها صبيحة "طوفان الأقصى".
وبدلاً من ذلك، انتشر عناصر المقاومة والشرطة الفلسطينية والطواقم المحلية لتأمين حركة المواطنين، وتسهيل تنقلهم، وحمايتهم من أي مخلفات وقذائف عسكرية غير منفجرة، وسط فرحة عارمة بين الأهالي الذين عادوا للتنقل بين المحافظات بحرية، دون وجود لجيش الاحتلال في المنطقة.
هذا المكان كان ذات يوم محط زيارة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، أرئيل شارون، الذي أطلق تصريحه المشهور: "مستوطنة نيتساريم كمدينة تل أبيب"، في محاولة منه لتهدئة غضب المستوطنين بعد فشل الجيش في حمايتهم من عمليات المقاومة وقذائفها.
لكن، بعد فشله في تحقيق وعده بتوفير الأمن للمستوطنين أو القضاء على المقاومة المتصاعدة، قرر شارون وجيشه الاندحار عن القطاع، وتفكيك جميع المستوطنات والمواقع العسكرية في سبتمبر/ أيلول 2005.
حينها، عمت الفرحة والاحتفالات أنحاء القطاع، وتمكن المواطنون والمزارعون من التنقل بحرية بين المحافظات، والعودة إلى أراضيهم ومنازلهم، دون أن تبقى مشاهد المستوطنات أو الحواجز العسكرية، ليسجل بذلك انتصار عسكري جديد للمقاومة الفلسطينية، التي أوجعت الاحتلال ومستوطنيه خلال خمس سنوات من الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000 – 2005).
وبعد 18 عامًا من تحرير غزة، نفذت المقاومة الفلسطينية "العبور العظيم" في عملية "طوفان الأقصى" يوم 7 أكتوبر 2023، مستهدفة المستوطنات والمواقع العسكرية في عمق الأراضي المحتلة عام 1948. وعلى إثر ذلك، أعلن جيش الاحتلال "حرب إبادة جماعية" على غزة.
وفي 5 نوفمبر، وتحديدًا في الليلة العاشرة للعملية البرية داخل غزة، أعلن جيش الاحتلال السيطرة على "محور نيتساريم"، بعد أن دمر المنطقة بالكامل، وقتل سكانها، وأحرق أبنيتها ومنشآتها، ليقسم القطاع إلى شمال وجنوب، ويمنع تنقل المركبات والمواطنين.
وفي خضم الحرب، كرر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو تصريح سلفه، قائلًا: "لن ننسحب من محور نيتساريم مهما كلفنا ذلك من ثمن.. لن ننسحب رغم الضغوط الهائلة.. هذه أصول استراتيجية عسكرية وسياسية على حد سواء".
وردًا عليه، خرج الناطق العسكري لكتائب القسام "أبو عبيدة" ليطمئن أبناء شعبه حول قدرات المقاومة، قائلًا: "سيكون محور نيتساريم محورًا للرعب والقتل.. وسيخرج منه العدو مندحرًا مهزومًا".
وبالفعل، اندحر جيش الاحتلال من "محور الرعب"، واندحرت آلياته وجنوده عن غزة، بموجب اتفاق بدأ في 19 يناير/ كانون الثاني الماضي، واكتملت بنوده أمس، برعاية قطرية ومصرية وأمريكية.
وبعد 15 شهرًا من "حرب الإبادة"، تمكن سائق الأجرة سعيد الدعالسة (50 عامًا) من نقل ركابه من جنوب القطاع إلى شماله، دون أن يواجه أي حاجز عسكري.
وبمشاعر ممزوجة بالفرحة، عبر الدعالسة بمركبته المتهالكة منطقة وادي غزة (وسط القطاع) متجهًا إلى مدينة غزة (شمالًا)، قائلًا: "لأول مرة أعود للعمل بين المحافظات.. لقد كان كابوسًا وانتهى".
والسائق سعيد، من سكان مخيم المغازي، فقد عددًا من أفراد عائلته في القصف الإسرائيلي، وعمل خلال الشهور الماضية داخل المحافظة الوسطى.
وأضاف: "لقد رأينا التجهيزات العسكرية الإسرائيلية، وشاهدنا القتل والدمار في هذا المحور وفي جميع أنحاء القطاع.. لم نتوقع أن يندحر الاحتلال عن غزة، رغم الدعم الأمريكي والأوروبي لجيشه".
وخلال عملية السيطرة على المحور، روج جيش الاحتلال لدعاية كبرى حول "نجاحه المزعوم"، وعمد إلى توسيع وتعزيز البنية التحتية لتمركزه وخطوط إمداده، حتى أن صحيفة "هآرتس" العبرية وصفت هذه التجهيزات بأنها "إنجاز طويل الأجل"، وأكدت أن "المحور شُيِّد ليبقى".
لكن، وعلى عكس ما روج له الاحتلال، عاد بذاكرة السائق إلى الأيام التي كان ينتظر فيها لساعات طويلة لعبور حاجز "نيتساريم"، قائلًا: "لقد كانت أيامًا صعبة وشاقة".
ويتابع: "خلال الحرب، أتعبنا التفكير والخوف من عودة تلك الأيام وعودة الاحتلال لإقامة الحواجز داخل غزة".
وأضاف الناجي من "الإبادة الجماعية": "لقد أطلق (نتنياهو) تصريحاته المتكررة حول هذا المحور.. وأطلق (أبو عبيدة) تصريحاته أيضًا.. وكانت الكلمة الأخيرة للمقاومة وشعبنا، الذي صمد وقدم التضحيات أمام مخططات الاحتلال ومستوطنيه".
ولأول مرة، وقف أحمد حسان (47 عامًا) على أنقاض منزله المدمر في بلدة المغراقة، التي أقام جيش الاحتلال على أراضيها أبراجًا وثكنات عسكرية لحماية جنوده في "محور نيتساريم".
ينظر حسان، الذي فقد العشرات من عائلته شهداء في جميع محطات مقاومة الاحتلال، إلى مشاهد الدمار التي أحدثها الجيش خلال 15 شهرًا، قائلًا: "هي ذات المشاهد التي أحدثها الجيش إبان حماية المستوطنة عام 2005، والآن 2025.. لكن النتيجة النهائية هي الهزيمة لهذا الجيش والحرية لغزة".
وأشار إلى التعنت الإسرائيلي في رفض الانسحاب من "محور نيتساريم"، والدعوات المتطرفة لإقامة مستوطنات على أراضي غزة، مضيفًا: "وفي النهاية، كان الاندحار".
وخلال الحرب، سعت جماعات استيطانية إلى عقد مؤتمرات وتدريبات لإعادة الاستيطان في غزة، لكن بعد اندحار الاحتلال، عاد الشاهد على المحطتين التاريخيتين ليكرر عبارته التي نطقها أول مرة عام 2005: "غزة حرة.. لا استيطان ولا مستوطنين".
ورغم فقدانه منزله ومنزل عائلته، احتسبهما حسان فداءً للوطن والمقاومة، التي "حققت وعدها لشعبها" بدحر الاحتلال عن أرض غزة.
وبحسب البلاغات العسكرية، نفذت فصائل المقاومة نحو 300 عملية بطولية ضد "محور نيتساريم"، شملت عمليات قصف مدفعي وقنص وإغارة وكمائن عسكرية.
وبحرية تامة، تمكن المواطن رامز ياسين (40 عامًا) من التنقل سيرًا على الأقدام بين حي الزيتون (جنوب مدينة غزة) وبلدة المغراقة، وسط سعادة غامرة بحرية التنقل في جميع الاتجاهات.
وقال ياسين: "مشروع محور نيت ساريم وانتهاءً بالميناء العائم الأمريكي، لم يكتب له النجاح بفضل صمود أهل غزة وتضحياتهم وإبداع مقاومتهم".