جلس الشاعر باسل أبو الشيخ منحنيا على كرسيه، متوجهًا نحو حشد من حوالي 50 شخصًا، ليلقي قصيدته. كان ذلك في أواخر ديسمبر، حيث تجمعنا في هذا المخيم الذي يضم مئات النازحين غرب دير البلح، وسط غزة، للاستماع إلى أعمال الشعراء الحاضرين.
كانت الشمس تغرب، وأضفت أشعتها البرتقالية لونًا دافئًا على الخيام، بينما ذكّرتنا نسمات البرد القاسية بقسوة الشتاء والنزوح. طائرات الاحتلال الإسرائيلي المُسيّرة كانت تحوم في السماء تبحث عن أهداف جديدة. جلس بعض الحضور على الأرض فوق ببطانيات بالية أو أكياس الخيش، بينما جلس آخرون على كراسٍ بلاستيكية.
ألقى أبو الشيخ قصيدته بنبرة تتأرجح بين التحدي والحزن:
القيد أدمى خاطري لا معصمي..
والليل أرق ناظري كالأنجم..
لا الدمع كفى ولا الدماء..
وما عدت أعرف سال دمعي أم دمي؟..
صفق الجمهور لأبو الشيخ بحفاوة كبيرة، معجبين بكلماته الشاعرية.
باسل أبو الشيخ، 55 عامًا، مؤلف رواية "أحزان فلسطينية"، كان من بين الشعراء الذين ساهموا في تنظيم الأمسية. قال إنه يأمل أن توفر هذه الفعالية مساحة للتعبير بين النازحين في المخيم — مساحة تساعدهم على استيعاب شهور طويلة من الرعب الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة.
أوضح أن قصيدته تتناول اعتقاله على يد الجيش الإسرائيلي في ديسمبر 2023 وسجنه لمدة أربعة أشهر.
كان أبو الشيخ يعيش حينها في مخيم جباليا شمال غزة مع أسرته المكونة من ستة أفراد. لجأت عائلته إلى مستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا، شمالًا، خلال القصف الإسرائيلي. لكن أبو الشيخ اعتُقل من داخل المستشفى، ولم يُفرج عنه حتى مارس 2024.
تعرض خلال سجنه للتعذيب الجسدي والنفسي، لكن الفاجعة الأكبر كانت في انتظاره. عند إطلاق سراحه، منعت القوات الإسرائيلية عودته إلى عائلته، وأجبرته على التوجه جنوبًا، حيث علم أن ابنه الأكبر استشهد في غارة جوية إسرائيلية في يناير 2024.
منذ ذلك الحين، يعيش أبو الشيخ وحيدًا في خيمة بهذا المخيم.
قال: "الشعراء والكتاب يمنحون الناس الأمل ويشجعونهم على تحمل مآسي الحرب".
أحمد تايه، شاعر آخر ومنسق مشارك في الأمسية، قال إنه اعتاد قبل الحرب على تنظيم قراءات شعرية في مختلف المقاهي في غزة.
"لكن الحرب فرّقت الشعراء، وحوّلتهم إلى نازحين مبعثرين في أماكن مختلفة،" قال تايه، مضيفًا أن من الصعب الآن معرفة أماكن وجودهم.
يأمل أن تساعد هذه الفعالية في "إحياء القطاع الأدبي والثقافي الذي دمرته الحرب إلى حد كبير".
اغتيال الشعراء
لكن هذا سيكون أكثر صعوبة بسبب عمليات الاغتيال التي طالت الشعراء والكتّاب الفلسطينيين.
من بين هؤلاء، الشاعرة والكاتبة هبة أبو ندى (32 عامًا)، التي قُتلت في غارة إسرائيلية على المنزل الذي لجأت إليه في خان يونس في أكتوبر 2023. هبة، مؤلفة رواية "الأكسجين ليس للأموات"، كانت تبرز بقوة ككاتبة، وبدأت أعمالها تُترجم وتنشر بالإنجليزية.
تقول في قصيدتها "تماسك"، التي ترجمتها هدى فخر الدين:
درويش، ألا تعلم؟
لن يعيد الشعر للوحدة
ما فقدناه، ما سُرق منا.
وثّقت أبو ندى الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون عبر منصات التواصل الاجتماعي، كتبت عن المجازر الإسرائيلية وعن قائمتها التي تتقلص من الأصدقاء — جميعهم شهداء الآن. لم تتوقف عن الكتابة حتى لحظة استشهادها.
في آخر ما كتبته على صفحتها في "فيسبوك" بتاريخ 20 أكتوبر 2023، قالت: "نحن في غزة عند الله بين شهيد وشاهد على التحرير، وكلنا ننتظر أين سنكون. كلنا ننتظر".
بعد ساعات من نشر هذه الكلمات، استُهدفت بغارة إسرائيلية قضت عليها مع عائلتها.
كما اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي الكاتب د. رفعت العرعير، أستاذ الأدب الإنجليزي في الجامعة الإسلامية بغزة، في غارة جوية على المدينة في ديسمبر 2023، بعد أسابيع من تلقيه تهديدات بالقتل من حسابات إسرائيلية عبر الإنترنت.
في الأيام التي سبقت اغتياله، كان العرعير قد حقق إنجازًا استثنائيًا بروايته "إذا كان لا بد أن أموت"، التي أصبحت من أكثر الكتب مبيعًا على المستوى الوطني الأمريكي في ديسمبر الماضي.
تدمير المراكز الثقافية لم يتوقف الاستهداف عند الأفراد، بل طال المؤسسات الثقافية أيضًا. التقرير المشترك بين الجهاز المركزي للإحصاء ووزارة الثقافة كشف عن تدمير 32 مركزًا ثقافيًا، و12 متحفًا، وفقدان أكثر من 2100 قطعة تراثية، فضلًا عن قصف دور نشر ومكتبات عامة، ومواقع أثرية.
"لن يقف أحد بجانبنا"
منذ أكتوبر 2023، قتلت إسرائيل عددًا لا يُحصى من الشعراء والكتّاب. تتفاوت تقديرات أعداد القتلى بحسب المصادر، لكن الحجم الحقيقي للمجزرة التي تعرض لها المشهد الأدبي في غزة سيظل مجهولًا.
قال رُمي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان: إن استهداف الشعراء والكتّاب والأكاديميين الفلسطينيين "متعمد" ويهدف إلى "تدمير الروح الثقافية والإبداعية للشعب الفلسطيني".
وصف عبده هذا الاستهداف بـ"الإبادة الثقافية"، مضيفًا أن الاحتلال يسعى "للقضاء على أي أداة قد تساعد الفلسطينيين في التعبير عن أنفسهم والمقاومة".
لهذا السبب كانت الأمسية الشعرية في المخيم غرب دير البلح بالغة الأهمية.
عبير الرياطي، 28 عامًا، معلمة لغة عربية، حضرت الفعالية وقالت إنها "استمتعت بسماع الشعراء وهم يلقون قصائدهم."
أعجبتها تنوع المواضيع: "بعضها عن معاناة الحرب، وآخر عن الحنين للشمال، وآخر يتغزل في الحبيبة".
كان موضوع الحنين إلى شمال غزة مؤثرًا بشكل خاص، إذ بعد أسابيع قليلة من الأمسية، أُعلن عن وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025.
تمكن أبو الشيخ من العودة إلى منزله في جباليا. قال إنه سعيد بعودته، إذ لم يتوقع أن تتحقق هذه اللحظة. ويأمل أن ينظم أمسية شعرية جديدة في جباليا.
عند كل تجمع شعري في غزة، يشعر الحاضرون بغياب من رحلوا. وكما قالت هبة أبو ندى في قصيدتها "تماسك":
كم نحن وحيدون!
هذا زمن الوقاحة،
ولن يقف أحد بجانبنا،
أبدًا.
آه، كم نحن وحيدون!
امسحوا قصائدكم، قديمها وجديدها،
وامسحوا هذه الدموع. وأنتِ، يا فلسطين،
تماسكي.

