وسط الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على غزة، لا يكافح السكان فقط للبقاء على قيد الحياة بين الركام والتشريد، بل يواجهون أيضا أزمة مياه خانقة تهدد وجودهم. فمع تدمير أكثر من 330 ألف متر طولي من شبكات المياه وخروج 717 بئرا عن الخدمة، أصبح الحصول على المياه رفاهية لا يملكها معظم الأهالي.
في المخيمات المكتظة والبيوت المهدمة، يصطف الأطفال والنساء لساعات طويلة أمام صهاريج المياه القليلة المتاحة، بينما تتفاقم معاناة المرضى وكبار السن في ظل انقطاع شبه كامل للإمدادات.
ومع تعاظم الأزمة، تتجه الأنظار إلى المؤسسات الدولية التي تتحمل مسؤولية قانونية وإنسانية لإيجاد حلول عاجلة، وسط اتهامات بالتقاعس عن حماية حق الفلسطينيين في الحصول على الماء، وهو أبسط مقومات الحياة.
البحث عن قطرة ماء
تجلس "أم خالد عزام" على عتبة منزلها في حي النصر غرب غزة، تتأمل الطريق الممتد أمامها، الذي لم يعد كما كان. قبل الحرب، كانت الحياة تسير رغم صعوباتها، وكان زوجها، الذي استشهد في قصف إسرائيلي، يعينها على حمل الأيام الثقيلة. أما الآن، فقد تركها وحدها تواجه قسوة الحياة، ليس فقط بفقدانه، ولكن أيضا بغياب أبسط مقومات العيش: الماء.
في حيها، كما في أحياء كثيرة بغزة، لم يعد تدفق المياه إلى البيوت أمرا مسلما به. دمرت الحرب الإسرائيلية شبكات الإمداد، وجفت صنابير المنازل، تاركة العائلات تصارع من أجل البقاء.
كل صباح، تخرج أم خالد مع أطفالها الصغار بحثا عن نقطة ماء. تقطع مسافات طويلة لتحصل على بضعة لترات من الصهاريج المتنقلة، لكن هذه الكمية لا تكفي حتى لغسل الأواني، فكيف لها أن تكفي للاستحمام، أو غسل الملابس، وللقيام بالأعمال المنزلية الأخرى؟
تقول بصوت يخنقه التعب لصحيفة "فلسطين": "أطفالي لم يستحموا منذ أيام، لا أستطيع غسل وجوههم إلا بمنديل مبلل، ملابسهم متسخة، وأواني الطعام تتراكم في المطبخ، كيف أعيش بهذا الوضع؟" تضيف وهي تنظر إلى طفلها الأصغر: "حتى الماء النظيف للشرب بالكاد أجده، فكيف لي أن أجد ما يكفي لبقية احتياجاتنا؟".
في الليل، تجلس أم خالد قرب نافذتها، تستمع إلى صوت جيرانها الذين يواجهون نفس المحنة. في الظلام، تهدهد أطفالها الجائعين والعطشى بكلمات مطمئنة، لكنها تدرك أن الغد لن يحمل معجزة. تحمل المجتمع الدولي مسؤولية هذا الواقع المرير، قائلة: "أين المؤسسات الدولية التي تتغنى بحقوق الإنسان؟ الماء حق، ونحن محرومون منه، على العالم أن يتحرك قبل أن نموت عطشًا!"
وسط حياة فقدت أبسط شروطها، تستمر أم خالد في معركتها اليومية، ليس فقط من أجل البقاء، ولكن من أجل أن تظل قادرة على تربية أطفالها رغم كل ما سلبته الحرب منها.
"لن أغادر أرضي.. ولكن"
في حي الزيتون شرق مدينة غزة، يجلس حمدي اسعيد (47 عاما) أمام خيمته الصغيرة التي نصبها قرب ركام منزله المدمر. عاد مؤخرًا من دير البلح بعد شهور من النزوح القسري، مصممًا على البقاء في أرضه رغم الدمار. لكنه يواجه تحديًا أكثر قسوة من أنقاض بيته: المياه.
يقول اسعيد وهو يمسح جبينه المتسخة بيده لـ"فلسطين": "عدت إلى هنا لأن هذه أرضي، ولن أغادرها مهما حصل، لكن كيف يمكن العيش بلا ماء؟ حتى في النزوح، كنا نجد بعض القطرات، أما هنا، فالماء بات حلمًا بعيدًا".
ابنائه يحيطون به، بعضهم يجلس على الأرض الجافة، وآخرون يعبثون بعبوات فارغة كانوا يأملون أن يملؤوها بالماء. في كل صباح، يخرج اسعيد بحثًا عن مصدر للمياه، لكنه يعود في كثير من الأحيان خالي الوفاض. "أقطع مسافات طويلة بحثًا عن صهريج مياه، وإن وجدته، يكون الماء قليلًا ومكلفًا، ولا يكفي حتى للشرب".
في خيمته، لا يمكن لزوجته غسل ملابس الأبناء أو تنظيف الأواني التي تكدست منذ أيام. حتى الاستحمام بات ترفا نادرا.
يحمل اسعيد المسؤولية الكاملة للمؤسسات الدولية، متسائلًا بغضب: "أين المنظمات التي تدّعي حماية حقوق الإنسان؟ الماء حق أساسي، وليس منّة من أحد. لماذا يتركوننا نواجه الموت بدون مياه؟ يجب أن يتحركوا فورا قبل أن تتفاقم الكارثة أكثر."
ورغم معاناته، يؤكد اسعيد أنه لن يغادر أرضه أبدًا: "إسرائيل دمرت منزلي، لكنني سأبني من جديد. سأبقى هنا مهما كانت الظروف، لكن على العالم أن يدرك أن العيش بلا ماء هو أقسى أنواع المعاناة".
البلدية تحذر
وحذر الناطق باسم بلدية غزة، حسني مهنا، من تفاقم الكارثة المائية وتأثيراتها الخطيرة على السكان.
وأوضح مهنا لـ"فلسطين" أن المياه تصل حاليًا إلى 40% فقط من مساحة المدينة، مما يترك أعدادًا كبيرة من المواطنين دون إمدادات كافية، وسط معاناة يومية متزايدة.
وأشار إلى أن تدمير الاحتلال لآبار المياه وخطوط الإمداد منذ بداية الحرب أدى إلى نقص حاد في المياه، ما تسبب في أزمة عطش غير مسبوقة بين الأهالي.
وأكد مهنا أن البلدية تعمل جاهدة لتأمين حلول عاجلة، مشددًا على أن توفير المواسير والمعدات اللازمة لإصلاح البنية التحتية للمياه يمثل أولوية قصوى.
كما دعا إلى حشد الجهود المجتمعية والدولية لدعم القطاع المائي، محذرًا من أن استمرار الأزمة قد يؤدي إلى تداعيات كارثية.
وأضاف أن شح المياه، إلى جانب تسرب الصرف الصحي وتراكم النفايات، ينذر بكارثة بيئية خطيرة قد تتسبب في انتشار الأمراض والأوبئة بين السكان، مما يزيد من تعقيد الوضع الإنساني في غزة.
وفي هذا السياق، ناشد مهنا المجتمع الدولي والمؤسسات الإنسانية بسرعة التدخل لتوفير المولدات الكهربائية والمعدات الضرورية لإعادة تشغيل آبار المياه المتوقفة، محذرًا من أن استمرار هذا الوضع يهدد حياة المواطنين ويضاعف معاناتهم اليومية.