في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، حيث كانت نيران الحرب الإسرائيلية قد دمرت المنازل والأرواح على حد سواء، انشغل الشقيقان نضال وأحمد غيث في نصب خيمة على أنقاض منزلهما الذي دمرته آلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أكتوبر 2023.
وقد أصبح مخيم الشاطئ، خلال أيام الحرب الضروس على القطاع، شاهدًا على الدمار الواسع الذي اقترفته آلة الحرب الإسرائيلية، فحولت المكان إلى أطلال. في هذا المكان الذي فقدا فيه كل شيء، قرر الشقيقان أن يثبتا وجودهما، حتى لو كان ذلك من خلال إنشاء خيمة بسيطة تحميهما من قسوة الأيام القادمة.
ومع كل مسمار كان الشقيقان يثبتانه في الخيمة، كانا يؤكدان تمسكهما بالحياة، رغم الآلام والمعاناة التي عاشاها طوال الـ 471 يومًا من الحرب الضروس على القطاع.
لحظات رعب
وبابتسامة ممزوجة بالحزن، ظهرت على وجه "نضال"، وهو أول من بدأ بسرد اللحظات الصعبة التي عاشها في الحرب، قائلًا لصحيفة "فلسطين": "كانت أولى هذه اللحظات المرعبة حينما اضطررت لإجلاء زوجتي وطفليَّ الاثنين من غزة إلى مدينة خانيونس جنوبي القطاع، وبعد أسابيع قليلة، بدأ المخاض عندها، فقررت نقلها إلى مستشفى التحرير في مدينة خانيونس".
وأضاف: "لم أكن أعلم أن الطريق الذي كنت أسلكه باتجاه حي الأمل، حيث المنزل الذي نزحنا إليه لجلب بعض ملابس مولودتي الجديدة، سيأخذني إلى منطقة محاصرة من قبل دبابات الاحتلال. وما إن اقتربت من المنزل حتى انهالت قذائف المدفعية على المكان، فهربت مسرعًا وسط الخراب".
ويكمل: "في تلك اللحظة، وجدت نفسي محاطًا بالشهداء والجرحى الذين كانوا ملقين في الطرقات. واصلت الركض بين أزقة الحي، وتنقلت بين شوارعه حتى وصلت إلى مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، حيث أمضيت ساعات طويلة مع آلاف العائلات المحاصرة".
وفي هذه الأثناء، وبحسب "غيث"، كانت زوجته في المستشفى تدعو الله عز وجل أن يحفظه، وسط خوف شديد من أن يكون قد لقي حتفه.
وعلى الرغم من انقطاع الاتصال مع الجميع، كانت الأخبار تصل بأن "نضال" كان من بين المفقودين. ومع الوقت، وصلت بشائر الفرج، ليعود الثلاثيني غيث إلى المستشفى، ليجد ابنته "وتين" قد لُفَّت بملابس والدتها، وتفجرت مشاعر الفرحة والدموع في آنٍ واحد بعد أن نجا من تلك اللحظة الحاسمة.
"منطقة آمنة"
لم تكن تلك المرة الوحيدة التي ينجو فيها "نضال" من الموت، على حد قوله، ففي صبيحة يوم الثالث عشر من يوليو/ تموز 2024، كان يتنقل بين بسطات الباعة في منطقة مواصي خانيونس، عندما استهدفت طائرات الاحتلال خيامًا كانت تأوي نازحين. فتساقطت الصواريخ من السماء، ووجدت نفسي مدفونًا تحت كومة من الرمال جراء الانفجار الضخم، لأخرج بعدها من تحت الأنقاض وسط صرخات الأطفال والنساء المصابين الذين كانوا حولي".
في تلك اللحظة، ارتكب الاحتلال مجزرة جديدة بحق النازحين، راح ضحيتها أكثر من 90 شهيدًا، معظمهم من النساء والأطفال، ونحو 300 مصاب.
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد صنف منطقة مواصي خانيونس كـ"منطقة آمنة"، بعد أن أصدر أوامر للمواطنين في مايو/ أيار 2024 بإخلاء أنحاء أخرى من قطاع غزة.
وأردف "نضال"، وعلامات الفرح ظاهرة على وجهه: "لقد كنت من المحظوظين الذين عادوا إلى مدينة غزة بعد 15 شهرًا من النزوح، ليبدأ مع شقيقه "أحمد" في إقامة خيمة على أنقاض منزله المدمَّر، في محاولة لخلق نوع من الاستقرار لأطفاله وزوجته، حتى يُعاد بناء المدينة مرة أخرى".
رفض النزوح
بينما كان "أحمد"، الشقيق الأصغر لـ"نضال"، يعمل في قص الأخشاب وتركيب الخيمة، كان له رأي مختلف عن الجميع في مسألة النزوح، فقد رفض أن يخرج من المدينة رغم دعوات جيش الاحتلال للذهاب إلى مناطق أخرى من القطاع بزعم أنها آمنة.
وقال لـ"فلسطين": "كان لدي قناعة تامة بأن جيش الاحتلال لن يرحم أحدًا، سواء في شمال أو جنوب القطاع، واستمررت في الإصرار على البقاء، حاملًا في قلبي ذكريات جميلة عن أيام كانت غزة فيها مكانًا للأمان".
وأضاف غيث: "رغم الدمار الهائل في مخيم الشاطئ، ورغم المعاناة اليومية، أنا هنا، ولن أترك قطاع غزة مهما كلفني ذلك من ثمن، ولن أسمح للمحتل أن يطردنا من ديارنا".
وفي مسعى لتحقيق حياة جديدة في غزة المدمرة، قرر غيث أن يظل في مخيم الشاطئ، متحديًا الظروف القاسية التي يعيشها من نقص في المياه والطعام وأكوام الركام، معترفًا أن ذكرياته مع أسرته هي ما يجعل حياته تستحق البقاء وإعادة إعمار ما دمره الاحتلال.
بينما ينشغل الشقيقان، "نضال" و"أحمد"، في بناء خيمتهما الصغيرة على أنقاض الدمار، يعكسان قصصًا عن النضال والصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، وكأنهما يقولان: رغم كل الألم والخراب، لا نزال متمسكين بالحياة، ولن نغادر قطاع غزة.
وفي 19 يناير/ كانون الثاني الجاري، دخل اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة حيز التنفيذ، ليستمر في مرحلته الأولى 42 يومًا، يتم خلالها التفاوض لبدء مرحلة ثانية ثم ثالثة، بوساطة مصر وقطر ودعم الولايات المتحدة