مع بعد العد التنازلي للموعد المقرر لعودة مئات الآلاف من النازحين لمدينة غزة، صباح الأحد، حسب اتفاق وقف إطلاق النار، سادت حالة من الوداع بين النازحين العائدين لمدينة غزة وأهالي جنوب قطاع غزة الذين احتضنوا النازحين وفتحوا بيوتهم لهم، واستقبلوهم قبل خمسة عشر شهرًا وتقاسموا معهم مأساة الحرب وويلاته.
شهدت البيوت والمخيمات ومراكز الإيواء حالة من الوداع للحظات الأخيرة بين النازحين وأهالي الجنوب، امتزجت بدموع الرحيل وامتلأت بالذكريات التي جمعتهم وأظهروا تكاتفًا وتلاحمًا اجتماعيًا ستبقى عالقة في الأذهان.
على مفترق شارع النص غرب مدينة خان يونس جنوب القطاع، كانت أم رجب كسبة تحاول اللحاق بإحدى الحافلات كي تنقلها إلى مخيم النصيرات وسط القطاع للمبيت هناك عند أقارب تمهيدًا للانطلاق لمدينة غزة.
تحمل كسبة حقيبة وتصطحب ابنها الشاب وطفلين وفتاتين وكل واحد يحمل ظرفًا أو حقيبة تضم بعض الطعام والملابس والمقتنيات الضرورية جدًا، فيما تركت خيمتها وكل المقتنيات والأغطية والملابس والأغراض خلفها لأجل رؤية ابنتها التي تنتظرها في مدينة غزة وبيتها.
تتسابق عبارات الفرح للتدفق من ملامح كسبة وصوتها، تقول: "نتشوق لرؤية أحبابنا، لم نحمل إلا بعض الأشياء البسيطة لأن مسير المشي طويل جدًا وحتى لا نرهق أنفسنا، على أمل أن تفتح الطريق في كلا الاتجاهين لعبور المركبات ومن ثم سنأتي مرة أخرى لإحضار باقي الأغراض".
لحظات صعبة
عن مشهد وداع عاشته اليوم في مخيم الإيواء، تحشرج صوتها بالبكاء وهي تضيف "كانت لحظات صعبة لأننا ودعنا أحبابا من أهالي الشهداء والبيوت المهدمة في المدينة واحتضنونا بعد فترة نزوح قاسية، تقاسمنا معهم هموم الحياة وأعبائها، من تعبئة المياه المحلاة ومياه التغسيل المنزلي وإعداد الخبز والاصطفاف على طوابير المخابز والبحث عن الطعام والنزوح المتكرر وهذه أشياء مستقرة في الذاكرة".
امتزج مشهد الوداع بالعناق والبكاء على أشخاص اعتادت كسبة على تواجدهم في حياتها، لا تنسى جلساتهم الطويلة، وفي نفس الوقت يغمرها الشوق لرؤية عائلتها في مدينة غزة ومنزلها، ما يجعل المشاعر تتداخل في نفسها بين الحزن على الفراق والشوق للقاء مرتقب، وبين عناق الوداع وعناق اللقاء تسود حالة من الحزن والفرح معًا.
صباح اليوم وصلت رسالة هاتفية إلى شروق وليد وهي نازحة من مدينة غزة بمحافظة خان يونس من شقيقتها التي تسكن المحافظة كتبت فيها "تعودت على وجودك، قلبي معصور على روحتك، تعودنا عليك الله يسهل طريقك. أصعب شعور التعود" تعبيرا منها على حزنها على فراق شقيقتها التي ستعود لمنزلها رغم فرحها بذلك.
وعلى مدار خمسة عشر شهرًا التقت الشقيقتان في كثير من الأوقات أو بشكل شبه يومي، وعاشتا في بيت واحد لمدة شهر واحد، ونزحتا معًا في منطقة المواصي لمدة شهرين كذلك، تقاسمتا تفاصيل الحياة بـ "حلوها ومُرها".
تقول وليد لصحيفة "فلسطين": "شعور صعب أن تودع أهلك وجيرانك الذين عشتم معهم حياة طيلة خمسة عشر شهرًا، واعتدنا على بعضنا، حتى أن أبنائي كوّنوا صداقات هنا مع أبناء الجيران بالتالي هناك مشاعر صعبة لأننا سنعود لمدينة غزة وسنفارق هؤلاء الأحباب الذين كنوا عونا وسندا لنا في حياة النزوح".
ورغم ذلك، تتوق لاحتضان منزلها بمدينة غزة بعد فترة من البعد والنزوح واللقاء بباقي أفراد عائلتها المتواجدين هناك، يغلف الفرح صوتها: "كلنا أمل أن تفتح الطرق بعد سيران وقف إطلاق النار مما سيسمح لنا بالعودة مرارا وتكرارا كما كنّا قبل الحرب، ولا نشعر بوجود حواجز ومسافات تبعدنا عن أهلنا".
وتستذكر وليد كيف قامت عائلة من سكان مدينة رفح بفتح منزلها لهم مع بداية نزوحهم، رغم عدم وجود صلة قراب بينهم، وتكمل: "مكثنا عندهم أسبوعين وأعطونا طابقا كاملا، وكنا ثلاثة عائلات أنا وشقيقتاي وأولادهن، وتعرفت على صاحبة البيت وبقينا على تواصل وتزاور حتى بعد انتقالنا لمكان آخر".
احتضان كبير
وفي موقف آخر عالق بذاكرتها، لا تنسى كيف جاء أجد أقارب زوجها ويعيش بمحافظة رفح وعرض عليهم العيش في منزلهم حتى نهاية الحرب، وتلقوا اتصالات عديدة من معارف وأقارب بالمدينة عرضوا تقديم مساعدات مالية لهم، إضافة لقيام البعض بإحضار ملابس وأغطية قبل بدء توزيع "الأونروا" المساعدات.
كما أنها لا تنسى قيام أحد سكان المدينة والذين استأجروا عنده بيتا بإعفائه من دفع الإيجار مدة شهرين، وعندما أصرّوا عليه دفع الإيجار بعد تلك المدة خصص المبلغ الشهري للشقة 400 شيقل وهو السعر الذي كان عليه الحال قبل الحرب، مما أعانهم على تحمل تكاليف الحياة.
وبعدما وضبت وليد أغراضها وحزمت حقائبها، وودعت جيرانها، وكانت على وشك الذهاب للمبيت بمحافظة الوسطى نغصت الأخبار القادمة من شارع الرشيد سعادتها وفرحها، بعد إطلاق جيش الاحتلال النار على النازحين المتواجدين مما جعلها تتريث لحين اتضاح الصورة.
وتجمع آلاف المواطنين بالقرب من تبة "النويري" بهدف تمكنهم من العبور لمدينة غزة في حال سماح قوات الاحتلال لهم بالعبور صباح الأحد، ومع إطلاق الرصاص عليهم سادت حالة من الخوف لدى النازحين.
وفي شوارع مدينة خان يونس رصد مراسل "فلسطين" عشرات السيارات التي تحمل مقتنيات وأغراضا وتقل نازحين عائدين لغزة متجهين نحو محافظة الوسطى، كما رصد تفكيك عشرات النازحين لخيامهم في منطقة المواصي.
وبداخل مركز إيواء بالقرب من مجمع ناصر الطبي بمحافظة خان يونس، وضب فايز بسيوني وهو نازح من مدينة بيت حانون أغراضه ومقتنياته، وبدت ساحة المدرسة التي كانت تعج بالأطفال شبه خالية مع بدء العد التنازلي لعودة النازحين، ويقول: "ودعنا بأجواء من الذكريات والشكر للنازحين الذين تقاسموا معنا الحياة الصعبة، وهوّنوا علينا مرارة تلك الحياة وصعوبتها".
وبدأ بسيوني بترتيب أغراضه تمهيدًا للعودة المرتقبة لمنزله الواقع في بيت حانون. كانت الفرحة بادية على ملامحه ترافقها ابتسامة عريضة وهو يتحدث لصحيفة "فلسطين": "ستبقى هذه الصفحة المؤلمة في حياتنا وذاكرتنا ولن ننساها، كما لن ننسى احتضان أهالي جنوب القطاع لنا".
أما أبو أحمد وهو من سكان الجنوب، فمع بداية الحرب فتح بيته لاستضافة عائلات نازحين من أقاربه فيعبر عن سعادته بعودة النازحين لأن هذا يعني فشل مخطط التهجير ووأده إلى الأبد، ويقول: "أهالي الجنوب ومع بداية النزوح فتحوا منازلهم واحتضنوا النازحين من مدينة غزة وشمال القطاع، عن نفسي قمت باستضافة عدة عائلات في منزلي، ورغم أجواء الضغط التي عشناها إلا أنني احتسبت ذلك لله، وكنا متكاتفين مع بعضنا البعض".
وتعكس مشاهد الاحتضان بالنسبة لأبو أحمد، جانبا مشرقا من حياة الشعب الفلسطيني المعروف عنه بالترابط الاجتماعي والتكاتف والتراحم خاصة وقت الأزمات، وأن حياة النزوح أدت لتعارف عائلات من الجنوب والشمال وسادت حالة من المصاهرة والنسب وهذا يؤكد أن حالة الترابط الاجتماعي ستمتد لما بعد وقف إطلاق النار والعودة.

