هل آن أوان رحيل بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، وتخليه عن منصبه طوعاً أو كرهاً، وهو الذي كان يحلم بأن يكون ملك بني إسرائيل الخالد، وطالوتهم المنتظر، وزعيمهم الأوحد، ورئيس حكومتهم الأطول حكماً والأكثر تكليفاً، والأشد ثباتاً في مواجهة التحديات والأزمات، والخطوب السياسية والمحن الأمنية، ورئيس الحكومة الأكثر استقراراً في مواجهة الطعون ومحاولات حجب الثقة، ومساعي تفكيك التحالف وإضعاف الائتلاف، والأكثر عناداً في مواجهة الضغوط الدولية ومحاولات فرض حلولٍ عليه أو وصايةٍ على حكومته، لإجباره على القبول بالعروض وتقديم تنازلاتٍ مؤلمةٍ، بل إنه تحدى الإدارة الأمريكية السابقة، وتصدى للرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وتحداه في بيته الأبيض، وتحت قبتي مجلس الشيوخ والنواب الأمريكيين.
وقد كان يظن أنه سيبقى في الحكم إلى الأبد، ولن يزيحه عن كرسيه أحدٌ سوى الموت، ولن ينازعه المنصب معارضٌ أو موالٍ، أو أحدٌ من خصومه أو من فريقه، وإن رغب في ذلك وأعلن، واستعد له وتحفز، فإن من سينافسه على المنصب أو سيزاحمه على السلطة سيخسر، بل سيعتزل السياسة ويرحل، وقد اغترَ بما آل إليه حاله واختال طرباً، إذ ظنَّ أنه الآمر الناهي، صاحب السلطة والسطوة، والحائز على القوة والقرار، وضابط التحالفات وصانع التكتلات، فلا يقوى على لي ذراعه أو كسر عنقه أحد، ولا ينافسه في حزبه أحدٌ، ولا يهدده في منصبه ضابطٌ أو وزيرُ دفاعٍ سابقٍ أو رئيسُ أركانٍ حالي أو راحل.
كما لم يكن يرى مبرراً لمنافسته أو إزاحته، أو سبباً للغضب منه أو النقمة عليه، أو التحريض عليه والتأليب ضده، لاعتقاده أنه أكثر من خدم كيانه وحصنه، وسلحه ومكنه، ووسع مستوطناته ونشرها، وبنى جديدةً أخرى، وهوّدَ مناطق كثيرةً في القدس واستولى على أجزاءٍ من الحرم، وحفر تحته العديد من الأنفاق وهيأ الظروف لإعادة بناء الهيكل، وعودة اليهود إلى معبدهم القديم، ومقدساتهم الأولى، ومكّن للمتدينين وأحزابهم، ولبى طلباتهم واستجاب إلى شروطهم، وسهل لهم مدارسهم ومعاهدهم، ووقف إلى جانبهم في محاذيرهم وطمأنهم على مخاوفهم، ولم يجبرهم على شئٍ يكرهونه، ولم يمنع عنهم معونةً يطلبونها، أو دعماً يتطلعون إليه.
كما أنعش الاقتصاد وسعى لرخاء الجمهور، وجنب البلاد الأزمات الاقتصادية والهزات المفاجئة، وصان العملة وربطها بسلة عملاتٍ تحفظها، ورفع من مستوى الأجور وضبط الميزان التجاري، وقلل نسبة البطالة وخلق فرص عملٍ جديدةٍ، ودعم سكن الشباب وسهل تمليكهم، وحارب التضخم والاحتكار، ونشط التجارة الخارجية وفتح لها أسواقاً جديدةً، قريبةً في الجوار، وغير بعيدةٍ عن مراكز الإنتاج، بكلفة تصديرٍ وشحنٍ أقل وبعائدٍ ومكسبٍ أعلى وأكبر، وغير ذلك من الإنجازات المتعددة التي يرى أنها تحققت في عهده، وازدهرت في ظل حكوماته، وشملت قطاعات إنتاجٍ مختلفة.
لكن فأل نتنياهو قد خاب، وطاش سهمه واختلفت حساباته، وانقلبت رأساً على عقبٍ توقعاته، ولم يعد يقوى على البقاء أو يستطيع الصمود، إذ اجتمعت عليه الأضداد كلها، وتحالفت ضده الظروف والتطورات، فاتهم بسوء استخدام السلطة والفساد، واستغلال المنصب وتلقي الهدايا والمساعدات، وحامت الشبهات حول صفقاته العسكرية وغواصاته النووية وتعييناته الإعلامية، وكثر الحديث واللغط عن منافع شخصية ومكاسب ترضية لأصدقاء ومعارف وعائلة وأقارب، بينما فتحت الشرطة ملفات زوجته سارة، التي أساءت استخدام سلطات زوجها، واستفادت من امتيازاته كرئيس الحكومة بغير وجهِ حقٍ، وبما لا يليق بشخصيةٍ عامةٍ، فضلاً عن كونها الأرفع منزلةً في الكيان.
لم يعد نتنياهو مقدساً في منصبه، ولا منزهاً في مهمته، بل كثر الناقدون له والكارهون لسياسته، والغاضبون من أفعاله والراغبون في تنحيته، والمطالبون بالتحقيق معه ومساءلته، ولعل رئيس الكيان الصهيوني بنفسه روؤفين ريفلين أكثر من ينتقده، وأشد من يقف في وجهه ويتهمه بأنه أصبح يضر بشعب إسرائيل، ويدمر مستقبلهم ويضر بعلاقاتهم، ويقامر بحلفائهم وأصدقائهم، وينقلب على داعميه المخلصين، والذين كان الفضل في تأسيس كيانهم والحفاظ عليه آمناً قوياً متفوقاً.
أما المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بكل اتجاهاتها، فهي ترى أن نتنياهو لم يعد فعلاً هو الرجل المناسب لإدارة الحياة السياسية في الكيان الصهيوني، فقد شغلته أموره الخاصة عن شؤون الحكم، وتورط في ملفاتٍ تؤرقه وتضعف تركيزه، وتؤثر على مصداقيته فضلاً عن أنها باتت تأخذ حيزاً كبيراً من وقته واهتمامه، ولهذا اتفق فريقٌ كبيرٌ من الأمنيين المتقاعدين وغيرهم، على ضرورة رفع الصوت عالياً في وجه نتنياهو، وتحذير المركبات الإسرائيلية الحاكمة كلها من خطر استمراره في منصبه، ومن هؤلاء عوزي أراد رئيس الأمن القومي الإسرائيلي السابق الذي وصف نتنياهو في تصريحٍ صاخبٍ له بأنه شخص غير كفء لإدارة الدولة في الوقت الراهن.
الأصوات المعارضة لنتنياهو في الأوساط الداخلية الإسرائيلية كثيرة جداً، وهي متنوعة ومتعددة الاتجاهات، فالشرطة ترى أنه متورط في ملفات فساد، والقضاء يتربص به للمحاكمة، والإعلام يتحفز للنيل منه، والعسكريون يتهمونه بالارتعاش والتردد، والمتدينون يصفونه بالانتهازي الكذاب، والمستوطنون يرونه مخادعاً وغير صادق، وحلفاؤه في الحكومة يبتزونه ويطالبونه بما لا يقوى عليه وما لا يؤمن به، وأقلام الكتاب لا ترحمه ولا تستر عليه ولا تدافع عنه، بل تفضحه وتكشف أوراقه وتميط اللثام عن ملفاته، وتتعمد التركيز عليها لتتحرك الشرطة وتحقق، ويفتح القضاء الملفات ويحكم.
أما دولياً بصورةٍ عامةٍ وأمريكياً بصورةٍ خاصة فقد أصبح وجود نتنياهو على رأس الحكومة الإسرائيلية، وفي سدة الحكم وزعامة أكبر الأحزاب الإسرائيلية، عقبةً أمام التسوية السياسية، وعائقاً أمام تمرير صفقة القرن الموعودة، وإن عجز أوباما عن انتقاده، فإن ترامب قد صرح أن نتنياهو عقبةً أمام التسوية، وأنه يعطل المشاريع ويقتل المبادرات، وأنه سلبي إزاء أصدقاء بلاده وغير إيجابي معهم، أما قادة دول أوروبا فهم أكثر انتقاداً وأشد غضباً من الأمريكيين، إذ يرون أنه يفسد كل المساعي، ويحبط كل الجهود، ويبدد الطاقات ويبعثر أموال المساعدات، ويدمر المشاريع الأممية والأوروبية.
تعددت الأسباب والنتيجة واحدة، فقد آن أوان رحيل بنيامين نتنياهو عن رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وبات استبداله بآخرٍ جديدٍ أمرٌ ملحٌ وضرورةٌ، وحاجةٌ وطنيةٌ إسرائيلية ضاغطة، ومطلبٌ دوليٌ عاجلٌ، وشرطٌ واجبٌ لتمام المخططات وتنفيذ البرامج وتمرير التسويات، وحاجةٌ شخصية لنتنياهو لينجو بنفسه، وينقذ ما بقي من سمعته ويحفظ كرامته، ولكن الفلسطينيين لا يرون من تغييره نفعاً، ولا يأملون في خليفته خيراً، فكلهم في الشر سواء، وفي ظلم الشعب الفلسطيني أعوانٌ.