وسط أجواء الحزن والدمار، عادت عائلة أبو سالم إلى منزلهم في شرق خان يونس بعد نزوح استمر لشهور في مركز إيواء للنازحين وسط مدينة دير البلح. كانوا يأملون أن يجدوا ما تبقى من ذكرياتهم وبيتهم الذي كان يحتضن أحلامهم. لكن ما أن وصلوا حتى اصطدمت أعينهم بمنظرٍ مؤلم: المنزل لم يعد موجودًا، وأصبح مجرد كومة من الركام، كما حال جميع المنازل المحيطة.
الأب، محمود أبو سالم (49 عامًا)، وقف بين الأنقاض يحمل طفلته الصغيرة ويقول لـ "فلسطين أون لاين": "هذا بيتنا ولن نغادره مهما كان. هنا ولدنا وهنا سنعيش، حتى لو كان السقف هو السماء والأرض هي الفراش".
رغم مرارة الموقف، قررت العائلة البقاء والصمود. في اليوم التالي، جمع الأب الحجارة المتناثرة وبقايا الأخشاب، وبدأ مع أبنائه ببناء خيام أمام منزلهم المدمَّر. بمساعدة الجيران الذين قرروا البقاء أيضًا، استطاعوا إنشاء مأوى صغير.
كانت الأم تعد وجبة بسيطة على موقد صغير بجانب الخيمة، وتقول: "هذا المكان ليس مجرد بيت، بل هو هويتنا. نحن هنا لنحمي ذكرياتنا، ولن نسمح للدمار أن يسرق منا جذورنا".
العائلة لم تكن وحدها. عشرات العائلات قررت أن تحذو حذوها، وكل واحدة منهم نصبت خيمتها أمام أنقاض منزلها. صوت الأطفال يملأ المكان، يلعبون بين الركام، وكأنهم يحاولون بث حياة جديدة في هذا المشهد القاسي.
يقول أبو سالم: "لن نرحل ولن نترك أرضنا. هذه الحجارة التي تراها ليست مجرد أنقاض، إنها جزء منا، وستظل شاهدة على ظلم الاحتلال وصمودنا".
رغم قسوة الحياة في الخيام وانعدام الخدمات الأساسية، أظهرت هذه العائلات قوة وإصرارًا على التمسك بأرضها وكرامتها. لسان حالهم يردد بصوت واحد: "صامدون على ركام منازلنا، ولن نرحل".
صمود فوق الركام
في مايو 2024، فقدت رفيدة النجار كل ما كان يجعل حياتها مستقرة. استهدفت غارة جوية منزلهم في شمال رفح، وأسفرت عن استشهاد زوجها واثنين من أبنائها. لم يكن أمام رفيدة سوى أن تجمع ما تبقى من عائلتها: أبناؤها الأربعة، والنزوح إلى مواصي خان يونس بحثًا عن الأمان.
انتهت الحرب، لكن الجراح لم تندمل. اتخذت رفيدة قرارًا شجاعًا بالعودة إلى منزلها، أو ما تبقى منه. مع كل خطوة نحو شمال رفح، كانت تحمل في قلبها الأمل والخوف. وعندما وصلت، لم تجد منزلًا. وجدت أنقاضًا متناثرة وأطلالًا تخفي بين طياتها ذكريات عائلتها الضائعة.
وقفت رفيدة وسط الركام، تتفحص المكان بنظرات مليئة بالحزن والعزم، وقالت بصوت يملؤه الإصرار لصحيفة "فلسطين": "هنا ولدت أطفالي، وهنا استشهد زوجي وابناي. لن أغادر هذا المكان. سنعيش هنا مهما كان الثمن".
لم تستسلم رفيدة. في الأيام التالية، جمعت الحجارة المتناثرة وبقايا الأخشاب لتبني خيمة فوق أنقاض منزلها.
أبناؤها الأربعة كانوا يلتفون حولها وهي تعد لهم وجبة بسيطة أمام خيمتهم. ورغم الظروف الصعبة، حاولت رفيدة أن تبث فيهم الأمل. تقول لهم دائمًا: "نحن هنا لأننا أقوياء. هذا الركام هو دليل على صمودنا، ولن نتركه أبدًا".
عودة مرتقبة
على أعتاب العودة، يستعد سكان شمال قطاع غزة لطي صفحة خمسة عشر شهرًا من النزوح المرير في وسط وجنوب القطاع، حيث ذاقوا مرارة الحرمان والجوع وانهكتهم قسوة المرض.
قلوبهم معلقة بالشمال، بالأرض التي احتضنت ماضيهم وذكرياتهم، وبالركام الذي صار عنوانًا لصمودهم. يحملون بين أضلعهم ألم الفقد وشوق العودة، يستعدون بخطى مترددة وحماس مكبوت، متسلحين بالأمل رغم الجراح، ليبدأوا رحلة أخرى نحو الحياة فوق ما تبقى من وطنهم.
في خيمة متواضعة بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يجلس أبو عامر شلبية بين أطفاله، مستعيدًا بصمت ذكريات حي الرمال في مدينة غزة.
كان منزله هناك رمزًا لاستقراره وحياته العائلية، لكن الحرب قلبت كل شيء رأسًا على عقب. استشهد عدد من أشقائه، وتحول منزله إلى ركام، ليجد نفسه بين آلاف النازحين الذين ينتظرون بصبر انسحاب الاحتلال من حاجز نتساريم، ليفتح الطريق أمام العودة إلى شمال القطاع.
يقول أبو عامر بصوت مشحون بالعزم لـ"فلسطين أون لاين": "فقدت كل شيء، المنزل، الأحبة، وحتى الأمان. لكن حي الرمال هو روحي. سأعود، حتى لو كانت العودة إلى الركام".
منذ خمسة عشر شهرًا، يعيش أبو عامر تجربة النزوح القاسية. لم تكن حياة النزوح سهلة، خيمة بالكاد تقيهم حر الصيف وبرد الشتاء، ومساعدات لا تسد رمق الجوع. ورغم ذلك، لم يفقد الأمل يومًا. "الاحتلال دمر كل شيء، لكنه لم يدمر عزيمتنا. سأعود لأقف فوق ركام منزلي، وأعيد بناءه بيدي، حجارة فوق حجارة، حتى يصبح كما كان".
أبو عامر لا يرى النزوح سوى محطة مؤقتة، مهما طال أمدها. يتحدث عن حي الرمال كما لو كان يرى تفاصيله أمام عينيه: الأزقة، الجيران، الأشجار التي زرعها مع أطفاله. يقول: "الرمال ليست مجرد حي، إنها جزء من حياتنا وهويتنا. نحن لا ننتمي للخيام، ننتمي لبيوتنا حتى لو كانت ركامًا".
مع اقتراب الحديث عن انسحاب الاحتلال من حاجز "نتساريم"، يتصاعد الأمل في قلب أبو عامر. يخطط في ذهنه خطوات العودة: "سأقف على أنقاض بيتي، سأجمع الحجارة وأعيد بناء الحياة. لن أترك الرمال، فهي بيتي، وبيت أبنائي، وذكراهم ستظل هناك، في كل زاوية من الحي".
أبو عامر شلبية، مثل آلاف النازحين، يحمل حلم العودة، ليس فقط إلى الأرض، بل إلى الكرامة والانتماء، متسلحًا بالصبر والإصرار، ليؤكد أن الوطن لا يُمحى، حتى لو هُدمت الجدران واستُشهد الأحبة.