مجرد الوصول إلى مدخل مخيم جباليا للاجئين شمالي قطاع غزة، تجد مشهداً لا يمكن وصفه من الدمار والخراب الذي أحدثته قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اجتياحها الأخير للمخيم، الذي استمر أكثر من مائة يوم.
منازل متجاورة سقطت جدرانها واختفت آثارها، وتشابكت حجارتها مع بعضها البعض. الطرقات أصبحت غير صالحة للسير، والمحلات التجارية غطتها الحجارة المتراكمة، بينما توشح بعضها الآخر باللون الأسود من شدة النيران التي أضرمها الاحتلال فيها خلال حرب الإبادة التي خاضها في جباليا وكل محافظة شمال القطاع.
حتى المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "أونروا"، والتي تحوّلت إلى مراكز تأوي النازحين، لم تسلم من عنجهية ذلك الاحتلال المُجرم الذي اقترف حرب إبادة لم تستثنِ أحداً، لا الحجر ولا البشر، فجعلت المخيم بلا أدنى مقومات الحياة.
بل إن المقابر التي تضم بين ترابها جثامين الأموات والشهداء، طالها القصف والدمار، وأقدم جيش الاحتلال على نبش بعض القبور وإخراج بعض الرفات، في صورة تعكس مشهداً من الإجرام الذي تخطى كل القوانين والأعراف الدولية.
وقد شن الاحتلال في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2024 عملية عسكرية على شمال قطاع غزة، وخاصة في مخيم جباليا وبلدة بيت لاهيا ومشروعها وبيت حانون، نفذ خلالها عمليات نسف كبيرة لمربعات سكنية واسعة باستخدام "روبوتات آلية" و"مكعبات بلاستيكية" متفجرة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 5 آلاف شخص وفقدان آخرين، وإصابة 9500 آخرين، وفق المكتب الإعلامي الحكومي.
صمود أسطوري
كل ذلك الدمار والمشهد المأساوي قابله صمود أسطوري من سكان مخيم جباليا، حيث كانت ترتسم على ملامحهم القوة ونشوة الانتصار والتمسك بالأرض مهما كلّف الثمن. هناك المواطن ميسرة أبو قمر، الذي يقطن في قلب مخيم جباليا شمالي القطاع، يقول: "حجم الدمار الذي أحدثه الاحتلال يفوق تصور العقل البشري".
ويوضح أبو قمر لـ "فلسطين أون لاين" أنه عندما توجه لتفقد منزله، لم يعرفه بالمطلق، فجميع البيوت متهاوية ومتراصة فوق بعضها، ولم يبقَ منها سوى بعض أكوام من الحجارة.
ويضيف: "كنت آمل أن أعود وأسكن في بيتي، لكنني صُدمت من حجم الدمار الذي أصاب البيت والمنطقة برمتها"، مستدركاً: "لكن رغم هذا الدمار، لن أترك المخيم، وسأعيش في خيمة على أنقاض المنزل".
أما الشاب حمد حجو، فقد كان يسير بسرعة متجهاً من مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، التي نزح إليها خلال العملية العسكرية الأخيرة، إلى مخيم جباليا حيث يسكن. ظنّ أنه سيجد منزلاً يأويه مع عائلته، لكن مجرد دخوله أعتاب مخيم جباليا أصابته حالة من الصدمة.
يقول حجو لـ"فلسطين أون لاين": "بعد مائة يوم من النزوح إلى غرب غزة، عدت لأتفقد منزلي بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، لكن حجم الدمار أصابني بالقهر والألم. فقد اختفت كل ملامح الشوارع والمنازل وتاهت مع بعضها البعض".
ويضيف: "أنا أسير في شوارع المخيم لكنني لا أعرف في أي منطقة بالتحديد أسير. لا توجد منازل ولا شوارع، انعدمت الحياة بالكامل في جباليا وشمال القطاع بأكمله (..) حسبنا الله ونعم الوكيل".
يتحامل حجو على نفسه ويقوي من عزيمته، فيردد: "لن نترك المخيم ولن نرحل عنه مهما كلفنا الثمن، وسأعيش على ركام المنزل وأبني خيمة"، موجهاً رسالة لكل الجهات الدولية والمعنية بإنقاذ جباليا وكل شمال القطاع من خلال الإسراع في وتيرة الإعمار وتوفير أدنى مقومات الحياة الكريمة.
"ما بدي اروح على مكان ثاني"
المُسنة "كاملة" كانت تتكئ على عكازها وتسير ببطء شديد كونها لا تقوى على الحركة السريعة. توزع نظراتها المليئة بالحسرة والقهر وهي تردد: "ما في شيء مبيّن من المخيم، كل المنطقة دمار".
تقول "كاملة" لـ"فلسطين أون لاين": "ما بدي اروح على مكان ثاني غير مخيم جباليا، بدي أقعد على الركام والحجار وربنا يعوضنا خير (..) الحمدلله على كل حال".
وشن الاحتلال في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2024 عملية عسكرية على شمال قطاع غزة، وخاصة في مخيم جباليا وبلدة بيت لاهيا ومشروعها وبيت حانون، نفذ خلالها عمليات نسف كبيرة لمربعات سكنية واسعة باستخدام "روبوتات آلية" و"مكعبات بلاستيكية" متفجرة، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 5 آلاف شخص وفقدان آخرين، وإصابة 9500 آخرين، وفق المكتب الإعلامي الحكومي.
وبدأ سريان اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم توقيعه بين المقاومة والاحتلال الإسرائيلي برعاية مصر والولايات المتحدة وقطر، اليوم الأحد في تمام الساعة الثامنة والنصف.
ويتضمن الاتفاق ثلاث مراحل، تشتمل المرحلة الأولى ومدتها 42 يوماً على وقف لإطلاق النار، وانسحاب وإعادة تموضع قوات الاحتلال خارج المناطق المكتظة بالسكان، وتبادل الأسرى والمحتجزين، وتبادل رفات المتوفين، وعودة النازحين داخلياً إلى أماكن سكناهم في قطاع غزة، وتسهيل مغادرة المرضى والجرحى لتلقي العلاج.