قائمة الموقع

عائلة "شقُّورة"... (إسرائيل) تقتل أحلام اللِّقاء على ركام منزلهم في "بيت لاهيا"

2025-01-16T15:18:00+02:00
عائلة "شقُّورة"... (إسرائيل) تقتل أحلام اللِّقاء على ركام منزلهم في "بيت لاهيا"

هزَّ صوت انفجار قريب قلب عيد شقُّورة وزوجته مع حلول العاشرة والنِّصف مساء الثُّلاثاء الموافق 14 يناير/ كانون الثَّاني 2024 بمدينة دير البلح وسط قطاع غزَّة. لكن لم يكن حجم اهتزازهما بقوَّة ما شعرًا به عند رنَّ الهاتف بعد الانفجار مباشرة. كانت زوجته تشاركه مخاوفها قائلةً: "اللَّه يستر. يارب ما يكوِّن صار شيء". ولم تكن تفاصيل المكالمة بعيدةً عمَّا كان يشغل أفكارها من خوف على طفلها محمَّد (7 سنوات) ، الَّذي ذهب لينام عند جدِّه السَّبعينيِّ رمضان شقُّورة.

بعدما أخبرهما المتصل باستهداف المنزل الذي نزح إليه والده الحاج رمضان، ونقل الشهداء والمصابين إلى المشفى، توجه عيد المكنى "أبو قصي" وزوجته مشيًا نحو المشفى. لم يجدوا في شوارع المدينة الفارغة ليلاً أي وسيلة نقل سوى أقدامهما التي لم تستطع حمل ثقل الخبر الجاثم على كاهليهما. لأول مرة، كانت مسافة الطريق طويلة. جفت دموع زوجته قبل الوصول إلى المشفى ومعرفة مصير طفلها وبقية أفراد العائلة.

في المشفى، كان المشهد مؤلمًا. لم يستوعب قلب "أبو قصي" وهو يرى أحد عشر جثمانًا مضرجين بدمائهم أمامه. يلقي نظرات وداع سريعة، ويحتار على أي جثمان يسكب دموعه أولاً. فأمامه والده، وعمه، وابنه، وشقيقتاه.

استشهد في المجزرة الحاج رمضان عيد شقورة، وابنته نجاة التي نزحت معه فيما بقي زوجها في شمال القطاع، وكانت تنتظر بفارغ الصبر لقاءه. كما استشهدت فاتن رمضان شقورة وأطفالها محمد وأحمد وهلا وصبا رأفت صالحة، واستشهد محمد عيد شقورة، والحاج ماهر عيد شقورة وزوجته سميرة، واستشهد محمد وسارة محمد شقورة، بينما أصيب والداهما ونجت شقيقتهما جودي (عام واحد).

نظرة الوداع

بينما كان "أبو قصي" ينتقل بين جثامين الشهداء وهو يلقي عليهم نظرة الوداع الأخيرة، كانت زوجته تحمل طفلها "محمد" تضمه بقوة، تشتمه بكل ما فيها من وجع، ويعتصر قلبها بكل ما فيه من قهر، وتبكي عيانها بما بقي فيها من دموع. في المشهد، تتصلب نظرات طفله قصي وهو يفقد شقيقه "محمد" ويصبح وحيد والديه.

قاسية هي لحظات الفراق في الثواني والساعات الأخيرة من عمر الحرب على قلوب الناجين وأفراد العائلة التي بدأت تتجهز لاستقبالهم. وحسرة على "أبو قصي" الذي سيعود إلى شمال غزة بلا طفله محمد ووالده وبقية أفراد العائلة، بعدما كانت ترتب وتخطط للاجتماع على ركام المنزل، وتتبادل الأفكار والخطط عن موعد العودة. بدأت بترتيب حقائب العودة، ليتغير المسار فبدلاً من العودة إلى منزلها، تذهب نحو قبر جماعي.

يقول "أبو قصي" بصوت مكلوم: "كان الأمر مفجعًا، لأننا كنا ننتظر إعلان وقف الحرب، ويكون هنا مستقبل أفضل. كنا في آخر اللحظات نتحدث عن الاجتماع على ركام المنزل، وننتظر لحظة إعلان وقف الحرب. كانت لديهم جرعة تفاؤل غير عادية، ثم تجدهم كلهم شهداء: الأب، والابن، وأبناء الأخ والأخوات". تاه صوته وهو يروي لـ"فلسطين" في مستنقع الوجع، فكل العبارات لن تستطيع وصف شعور الرحيل.

أحلام محطمة

كان والده الحاج رمضان شقورة، الذي وصفه بـ"الرجل البسيط الطيب"، يعمل في بلدية بيت لاهيا وتقاعد مع بلوغه سن التقاعد. كان يعاني من أمراض مزمنة، يتكئ على عكاز يحمل عنه ما بقي من عمر وحياة. كان لديه أمل بأن تنتهي الحرب ويعيش في منزله. وبنفس الحالة الصحية، رحل شقيقه الحاج "ماهر". لم ترحم الصواريخ التي ألقتها طائرات الاحتلال وجود مسنين وأطفال ونساء في المنزل.

أما طفله محمد، فغادر مع عمته "نجاة" لشدة التصاقه بها. تخنق الدموع صوت والده بينما يطرق الطفل ذاكرته. يصفه قائلاً: "هو طفل رائع، غير عادي، أكبر من سنه. يستطيع محاورة الكبير وتشعر بالمتعة وأنت تتحدث معه. لديه أحلام كبيرة. قال لي: 'سأشتري ألعاب الحيوانات' بعد وقف الحرب. لكن هذه الحرب والمجزرة دمرت ذكرياتنا الجميلة ومخططاتنا المستقبلية. أمر الله نافذ، ولا زلنا نحاول استيعاب الفاجعة".

يزيد توقيت المجزرة من حسرة شقورة على رحيل عائلته. يقول: "جاءت في وقت حرج، ستبقى فينا حسرة للأبد. لأننا قطعنا شوطًا كبيرًا، وتحملنا النزوح والتشرد، ونجونا من موت وموت طوال نحو 470 يومًا. وفي آخر لحظات الحرب، يقتلهم الاحتلال ويهدم كل شيء جميل فينا. في وقت كنا نفكر بماذا سنفعل، ما جعلها صدمة كبيرة. ورغم ذلك، نحن متسلحون بالأمل".

لقاء لم يكتمل

لم تؤيد "أم قصي" إرسال طفلها مع عمته، رغم سماحها له كثيرًا بالمبيت عند جده. يقول "أبو قصي": "كانت تخشى من اللحظات الأخيرة، وطوال اليوم ظلت تضع يدها على قلبها وتحبس أنفاسها وتطلب مني إرجاعه إليها، وتقول بأنها غير مطمئنة. وكان حدسها صادقًا. وفي المشفى، طلبت أن تحمل جثمانه وتحتضنه".

ينتزع الحديث عن التصاق الطفل بأمه ابتسامة ممزوجة بقسوة الفقد من صوت والده: "كان من كثرة حبه لأمه يقول اسمي محمد حنان مطر، بشيء من المزاح والدعابة. صبرنا الله على فراقه، ونأمل أن يكون ما لحق بنا آخر الأحزان لشعبنا المكلوم".

أما شقيقته فاتن، التي كانت آخر الشهداء الذين جرى انتشالهم، واستشهد جميع أطفالها، فكانت تعمل ممرضة. رغم نزوحها إلى مدينة دير البلح، عايش شقيقها كيف كانت تعاني في الذهاب والمواصلات إلى عملها في مستشفى العودة بمخيم النصيرات. يقول: "كان ذلك يستغرق وقتًا طويلاً منها، خاصة في نهار فصل الشتاء القصير. كثيرًا ما كانت تعود في وقت متأخر، تجتهد بين إسعاف المصابين وإطعام وتربية أولادها. كافحت حتى آخر رمق من حياتها، لتعكس أنموذجًا في الصمود وتضميد جراح المصابين".

بينما كانت شقيقته "نجاة"، التي لم ترزق بأطفال، تنتظر إعلان وقف الحرب بفارغ الصبر للقاء زوجها الموجود في شمال القطاع، بعد سنة من البعد فرقتهم خلالها الحرب. يقول "أبو قصي": "كانت دائمًا تشعر بطول المدة، حتى أنها كغيرها من الناس استنفذت طاقة الصبر لديها".

هذه قصة عائلة شقورة، واحدة من آلاف القصص التي ترويها غزة الجريحة، حيث تحولت أحلام اللقاء إلى ركام تحت أنقاض المنازل، وحيث يبقى الأمل رغم كل شيء.

اخبار ذات صلة