عمقت خسائر جيش الاحتلال الإسرائيلي في المعارك الأخيرة بقطاع غزة الفجوة بين الإسرائيليين، مما أدى إلى تصدعات حقيقية تهدد بتشظي المجتمع وتفككه بين تيارين عريضين. وكانت هذه الخسائر من بين العوامل التي دفعت حكومة اليمين المتطرف إلى محاولة التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار مع المقاومة الفلسطينية في غزة.
وتكبد جيش الاحتلال الإسرائيلي مطلع الأسبوع الجاري خسائر كبيرة في صفوف جنوده ما بين قتيل وجريح، في عمليات نوعية للمقاومة بمدينتي بيت حانون شمالي القطاع ورفح جنوبيه. فقد أعلن الجيش مقتل 15 من جنوده وإصابة 18 آخرين في عمليات للمقاومة ببيت حانون منذ الجمعة وحتى الاثنين الماضي. فيما أعلنت كتائب الشهيد عز الدين القسام عن تنفيذ مقاتليها عملية استهدفت 25 جنديًا في مخيم الشابورة وسط رفح، وأوقعت جميع أفراد القوة بين قتيل وجريح.
تصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي
يؤكد نزار نزال، الخبير في الشأن الإسرائيلي، أن خسائر جيش الاحتلال في شمال غزة منذ إعادة اجتياحه في أكتوبر الماضي، أحدثت تصدعات حقيقية بين الإسرائيليين. فأنصار التيار العلماني والليبرالي (المعارضة) يشعرون بالمرارة والغضب والسخط من حجم الخسائر، بينما أنصار الصهيونية التوراتية غير مبالين بتلك الأثمان الباهظة.
يقول نزال لـ"فلسطين أون لاين": "نخبة التيار العلماني والليبرالي من كبار الساسة والعسكريين السابقين يتهمون نتنياهو وأركان حكومته المتطرفة بزج أبنائهم إلى ساحات القتال المتقدمة، بينما يرسلون الجنود من الحريديم إلى ساحات هادئة مثل تل أبيب وحيفا".
ويضيف: "فاتورة القتلى الباهظة تؤرق العلمانيين لأن جنود جيش الاحتلال ينحدرون من ذلك التيار، وهم يرون أن الخسائر تقع في صفوفهم، فيما لا يزعج الثمن الباهظ من القتلى التيار المقابل الذي يمثله بن غفير وسموتريتش وغيرهما من الأحزاب المتطرفة في حكومة نتنياهو".
ويجزم نزال بأن عدد القتلى بين جنود الاحتلال أكبر بكثير مما يعلنه جيش الاحتلال، لأن الإسرائيليين يعلنون عن قتلاهم من ذوي الأصل اليهودي، أما الجنود الأميركيين والبريطانيين والإيطاليين والمرتزقة ومن لف لفهم، فلا يجري احتسابهم في جملة الخسائر اليومية.
وقد أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي منتصف الأسبوع مقتل 840 عسكريًا وإصابة 2566 آخرين منذ بدء حرب الإبادة على غزة، مشيرًا إلى أن 405 من هؤلاء قتلوا خلال المعركة مع المقاومة الفلسطينية داخل القطاع.
فشل الأهداف يغير الحسابات
يقول المختص في الشأن الإسرائيلي عماد أبو عواد لـ"فلسطين أون لاين": "إن المعارك التي تخوضها المقاومة الفلسطينية في غزة، والخسائر التي ألحقتها بألوية نخبة جيش الاحتلال، صعدت من طبيعة الانتقادات التي تنهال على نتنياهو من كبار المسؤولين العسكريين السابقين مثل يوآف غالانت وموشي يعالون وغادي آيزنكوت، وكذلك من كبار ساسة الاحتلال، وهذا ما لم يكن معهودًا على الإسرائيليين خلال وقت الحروب".
مع تتابع مسلسل الخسائر في الجنود والمعدات لجيش الاحتلال في غزة، تتعاظم انتقادات كبار المسؤولين السابقين، لأنهم يرون في استمرار الحرب استنزافًا للجيش وتعريض الجنود للخطر، وفقًا لأبو عواد.
ويشير إلى حديث مسؤولي الاحتلال السابقين عن قدرات المقاومة الفلسطينية على التغلب على إجراءات الاحتلال في غزة، وأن الجيش كلما توغل أكثر في غزة أصبح صيدًا أسهل على أيدي المقاومة.
ويؤكد أبو عواد أن خسائر الاحتلال في شمال غزة منذ إعادة اجتياحه قبل أكثر من 100 يوم، أفشلت أهداف الاحتلال التي أعلنها منذ اليوم الأول للعدوان، وأقنعته بعدم إمكانية القضاء على المقاومة. لذا بدأوا يتراجعون عن تلك الفكرة، كما أجبرتهم من بين عوامل أخرى على التوجه قدماً لوقف إطلاق النار في غزة.
ملامح التصدع
يعدد نزال ملامح التصدع التي أصابت المجتمع الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، والتي تفاقمت مع الخسائر الباهظة في غزة. فلأول مرة في تاريخ إسرائيل، يتسلل الانقسام من الشارع إلى الجيش والأمن والنخب الحاكمة والمعارضة، إذ لم يكن في تاريخ إسرائيل مطلقًا انتقاد من العسكر ضد الحكومة كما يحدث الآن وبشكل علني من كبار الضباط والجنود.
كما فقدت إسرائيل صوابها بعد السابع من أكتوبر 2023، فلأول مرة يسيل الدم في شوارع حيفا وتل أبيب جراء قمع الشرطة لاحتجاجات متعلقة بالتعديل القضائي واحتجاز أسرى الاحتلال لدى المقاومة بغزة.
ثالث الملامح التي يرصدها نزال تكمن في مغادرة أكثر من 83 ألف إسرائيلي كيان الاحتلال؛ أغلبهم من غير المتطرفين، بينما عاد 23 ألفًا من التوراتيين لدعم موقف الصهيونية الدينية.
ويتوقع نزال أن تذهب المواجهة بين الفريقين العلماني والتوراتي إلى الصدام الناعم في الشارع، من قبيل استمرار الاشتباكات والتراشق غير المسبوق بالاتهامات والشتائم والتهديد، وربما أكثر من ذلك. ويقول: "المجتمع يتجه بقوة نحو اليمين التوراتي، وهو بذلك يخالف تأسيس الكيان القائم على الفكر الإلحادي والعلماني الليبرالي".

