يكشف اعتماد جيش الاحتلال الكلي على التكنولوجيا في حرب الإبادة التي يشنها على قطاع غزة عن حالة الضعف والترهل القتالي الكبيرة للجندي "الإسرائيلي" في ميادين المعارك ومحاور القتال المختلفة.
وفي مشاهد كثيرة بثتها المقاومة لالتحام مقاتليها مع آليات الاحتلال، أظهرت فرار الجنود الإسرائيليين من أمام المقاومين الفلسطينيين، لحظة تقدم المقاومين بشجاعة نحو أماكن يتحصن بها جنود الاحتلال.
وأدى الاعتماد على التكنولوجيا إلى ضعف مهارات الجنود في ميدان القتال، فيقول مدير الموارد البشرية سابقًا في جيش الاحتلال إسحق بريك عن حالة الضعف: "هذا الجيش مترهل وضعيف ولا يستطيع المواجهة في الميدان".
ويعتقد خبراء أن الاحتلال وصل إلى حد يعتمد على التكنولوجيا بشكل مفرط، سواء من خلال المسيرات التي تحركها أنظمة إلكترونية مرتبطة ببرامج الذكاء الاصطناعي، والرشاشات الأوتوماتيكية، والروبوتات، والمدرعات غير المأهولة، وحتى في تبادل المعلومات بين الطائرات الحربية وطائرات بدون طيار، بحيث قلل من فاعلية الجنود في الميدان بهدف "حمايتهم"، كما وضع رئيس الأركان السابق أفيف كوخافي في خطته.
ورغم توظيف ترسانة عسكرية هائلة تعتمد على التكنولوجيا، أصبحت عبارة عن "آلة دمار" ارتكبت مجازر بشعة في غزة، تخلت المقاومة عن التكنولوجيا للتغلب على هذا التحدي الكبير.
في هذا الإطار، رأى الخبير العسكري والاستراتيجي اللواء فايز الدويري أن جيش الاحتلال تمت هيكلته خلال السنوات الماضية بما يقلل الاعتماد على القوات الأرضية لصالح تعظيم التكنولوجيا وتقوية سلاح الجو، مشيرًا إلى أن ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي "يؤكد فشل العاملين في حقل المراقبة التكنولوجية الذين كانوا -حسبما قال بعض جنود الجيش- يتركون شاشات المراقبة لساعات دون متابعة".
وعاش الاحتلال أسوأ مراحل الاعتماد على التكنولوجيا في هجوم المقاومة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فحسب تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية: "انهار خط الدفاع الذي كان يعتمد بالكامل على التكنولوجيا، بل على مجموعة من التقنيات، بعضها الأحدث في العالم، وبعضها فخر التكنولوجيا الإسرائيلية الفائقة، التي كان من المفترض على الأقل التنبيه وتوفير الحماية الأولية".
ويتضمن هذا الجدار، وفق الصحيفة، حاجزًا عميقًا تحت الأرض، وسياجًا علويًا حسيًا (حساس للمس)، ومجموعة كاميرات متطورة، وأجهزة استشعار للحركة واللمس السطحية وتحت الأرض، وهوائيات خلوية وأبراج تنصت، وبالطبع مواقع "الرامي" - برج يعلوه رشاش في الأعلى، يتم تفعيله عن بعد عند الضرورة من قبل مراقبات يجلسن في مقر الفرقة أمام الشاشات، ومن المفترض أن يرصدن أي تحرك على الحدود.
ما يثير استغراب الصحيفة هو كيف أسقطت كتائب القسام الذراع العسكري لحركة حماس هذا الجدار الافتراضي والمتقدم للغاية عالي التقنية في لحظة، بوسائل دخلت معظمها حيز الاستخدام بالفعل في الحرب العالمية الأولى، باستثناء واحدة: الطائرات بدون طيار التي يمكن شراؤها اليوم من أي متجر للأدوات الذكية. وشاركت 35 طائرة بدون طيار، وقامت هذه الأدوات بتدمير كل الوسائل الإسرائيلية التي تعتمد على التكنولوجيا.
وبنفس الطريقة، لا تزال المقاومة تستخدم العبوات والكمائن وقواذف RPG المضادة للدروع، فضلًا عن أنظمة اتصال بعيدة عن التكنولوجيا، إضافة إلى شجاعة المقاتل المقاوم في الميدان واعتماد أساليب مناورة وتضليل لأنظمة المراقبة في الجو الذي يكتظ بكافة الطائرات: حربية، استطلاع، مسيرات، تجسس، مما تسبب في تكبد الاحتلال خسائر باهظة في الآليات والأفراد.
اعتماد مفرط
ويرى الكاتب في الشأن السياسي والعسكري أحمد عبد الرحمن أن التكنولوجيا المفرطة أضرت بالجنود وبالقدرة القتالية، حتى جنود القوات الخاصة التي كانت إسرائيل تفاخر بهم على الدوام أصبحوا عرضة للاستهداف، وهو ما أعطى المقاومين فرصة لإظهار إمكانياتهم وعقيدتهم القتالية وتمسكهم بأرضهم من خلال الوقوف في وجه الآلة العسكرية الهائلة التي تدمر كل يوم قطاع غزة.
لكن رغم كل هذا الفارق في الإمكانيات، كانت الغلبة في الميدان لصالح المقاومة، كما تثبت وتظهر المشاهد في شمال القطاع وجنوبه، حيث يعتمد المقاوم على بسالته وعقيدته العسكرية، بينما اعتاد الجندي الإسرائيلي على الجلوس في طائرة أو مدرعة.
ويقول عبد الرحمن لـ "فلسطين أون لاين": "الاحتلال ليس في هذه الحرب يعتمد على التكنولوجيا فحسب، بل منذ عشر سنوات يحاول تحويل الجيش إلى جيش 'ديجتالي' كما يوصف بالمفاهيم العسكرية، بحيث يعتمد على التكنولوجيا بإطلاق النار من الرشاشات الأوتوماتيكية والطائرات المسيرة والروبوتات والآليات المدرعة المسيرة وغير المأهولة".
وأضاف بأن معظم ترسانة الاحتلال العسكرية تعتمد على التكنولوجيا، حتى من ناحية تبادل المعلومات بين الطيران الحربي والاستطلاع من أجل إعطاء الإحداثيات لقصف ما، يتم بشكل إلكتروني في كثير من الأحيان وبدون تواصل بشري، إضافة إلى ما نشاهده خلال الحرب بتقديم مبادئ الذكاء الاصطناعي على كل المبادئ الأخرى، سواء على مبادئ الإشراف المباشر.
وبالتالي، انتقل جيش الاحتلال، كما تابع، من جيش كبير يبلغ تعداده حوالي 180 ألف جندي نظامي إضافة إلى نحو 600 ألف جندي احتياط، إلى جيش صغير ولكن بإمكانيات تكنولوجية كبيرة وهائلة، بحيث أصبح الحاسوب هو من يحدد من تقصف هذه الطائرات وإلى أين تتجه، وكذلك الحال بالدبابة.
ويتم استخدام التكنولوجيا بشكل متزايد كأداة لانتهاك حقوق الإنسان، حيث تُستخدم أدوات مثل أنظمة المراقبة والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لأغراض قائمة على التتبع والمراقبة.
رد فعل المقاومة
في المقابل، تعاملت المقاومة مع هذا الأمر بشيء من الصعوبة في البداية، لأنه "من الصعب جدًا مواجهة التكنولوجيا، ومن الصعب أن تواجه الأدوات العسكرية الهائلة وأن تواجه تحالفًا دوليًا من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وكلها جيّرت طائراتها ومسيراتها وأقمارها الصناعية لرصد كل حركة تجري في قطاع غزة في مساحة ضيقة قياسًا بالإمكانيات المعدة للتعامل معها"، كما يقول.
ولفت إلى أنه في بداية الحرب كانت تحلق طائرات أمريكية متطورة على امتداد شاطئ غزة، ترصد أي مكالمة أو بريد إلكتروني أو رسالة نصية وما لا يخطر على بال الناس غير المطلعين.
وطورت المقاومة نفسها، وفق عبد الرحمن، وقلصت اعتمادها على التكنولوجيا لمجابهة التحديات الإلكترونية، ووقفت الاتصالات نهائيًا سواء السلكية أو اللاسلكية، حتى منظومة الاتصال الخاصة بالمقاومة جرى وقفها، لأنه تم في بداية الحرب اكتشاف وجود خروق في هذه المنظومة من خلال طيران أمريكي حديث كان يصور حراريا، واكتشف بعض نقاط المقاومين من خلال رصد أسلاك الهاتف التي تصدر حرارة.
ورأى أن المقاومة واجهت التفوق التكنولوجي بتقليص الاعتماد عليها نهائيًا، سواء على صعيد الاتصالات الداخلية أو الخارجية، وعلى العكس تمامًا، اعتمد جيش الاحتلال على التكنولوجيا وقلص الاعتماد على العنصر البشري.
وقال: "عندما نشاهد المعارك الجارية في شمال القطاع ومحافظة رفح وخان يونس وغزة، سواء التي تجري في الميدان أو داخل البيوت، أو في بعض التموضعات، كانت تنتهي لصالح المقاومين، رغم أنهم لا يملكون مناظير رؤية ليلية ولا سلاحًا حديثًا، وآليات واتصالات متقدمة".
وقارن عبد الرحمن بين معدات الجندي الإسرائيلي والمقاتل المقاوم، مبينًا أن فارق الإمكانيات هائل لصالح جندي الاحتلال المحصن بإمكانيات عسكرية وبندقيات ومناظير ليلية تبلغ قيمة ما يحمله الجندي الواحد نحو 100 ألف دولار، في المقابل لا يرتدي المقاوم حذاءً في بعض الأحيان بسبب صعوبة الأوضاع.