"قلبي محروق، والله مقهورة.. تمنيت أودعهم.. نفسي أطلع من المستشفى وأبوس رمل قبرهم". دموع حارقة تنساب من عينيها الشاحبتين، وقلب منفطر ينفجر بصرخات تخنق أنفاسها. لا تعرف رنا دلول حدًا لحزنها، بعد مجزرة إسرائيلية اختطفت اثنين من أطفالها دون وداع.
كانا بكاهلها المثقل بأعباء حرب الإبادة الجماعية يساعدانها في مدرسة النزوح بالنصيرات في إيقاد فرن بدائي يعين الأسرة على متطلبات العيش، قبل أن تسكب عليهم الطائرات الحربية صواريخها، لتخمد آخر أمل لهم في الحياة، وتحيلها إلى جريحة ومبتورة على سرير المستشفى.
هموم تراكمت على ظهرها منذ أن بدأت حرب الإبادة الجماعية في قتل وتجويع وتعطيش الغزيين في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفرضت على أسرتها التي تقطن في حي الزيتون جنوب مدينة غزة معاناة لا توصف.
رنا (31 عامًا) هي ربة بيت كانت تعيل مع زوجها حسام دلول أطفالهما: أنعام، ورياض، وملك، وجوري، وسلطان، قبل أن يستشهد رياض وملك، وينقلب حال الأسرة إلى كابوس آخر أشد ضراوة.
تقيدها الأوجاع والجراح، وتفقدها القدرة على الحركة والشغف في الحياة، قائلة لـ"فلسطين أون لاين": "في بداية الحرب بقينا في بيتنا شهرين تحت وطأة القصف الكثيف، إلى أن أجبرنا ذلك على النزوح القسري".
وترافق ذلك مع قطع الاحتلال الإسرائيلي الكهرباء والماء عن أهالي غزة، ما وضع رنا وأسرتها في متاهات البحث عن مقومات الحياة.
عن ظروف ما قبل النزوح، تضيف: "أنهكنا البحث عن مواتير لرفع المياه إلى المنزل أو الحصول على ما يتوفر منها في المساجد، وقطعوا عنا الغاز وبتنا نوقد نارًا لنتدبر أمرنا، وحرمونا من الدقيق وحتى المعكرونة، وهي بديل عنه كانت مرتفعة الثمن ولم نستطع شراءها".
في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، نزحت رنا وأسرتها إلى مدرسة الفلاح التي لم تسلم أيضًا من القصف، حيث قصفتها طائرات الاحتلال على رؤوس النازحين، ما أدى إلى إصابة أهلها.
ينسكب الوجع من صوتها، موضحة أن أخاها أصيب في هذه الغارة بشظايا في رأسه أثرت على قدراته العقلية، وأجهضت حمل زوجة أخيها التي كانت حاملاً في الشهر الرابع، وجُرحت زوجات إخوتها الأخريات.
في محطة النزوح الثانية، اتجهت رنا وأسرتها إلى النصيرات، حيث زعم الاحتلال أنها "منطقة آمنة"، لتكتشف أنها لا تقل سوءًا.
رنا شاهدة على جريمة فصل شمال القطاع عن جنوبه ومنع تنقل الغزيين وتهديد حياتهم، حيث تتمركز قوات الاحتلال في ما يعرف بممر "نتساريم" وسط القطاع، وتطلق النار بعشوائية على النازحين المنهكين.
تقول: "وضعنا أخي المصاب على عربة يجرها حمار لنقله إلى المستشفى، وكان جنود الاحتلال يطالبوننا بكشف وجوهنا وإبراز الهويات الشخصية، ولو تحركت أقدامنا خطوة واحدة يطلقون النار علينا".
وهناك شاهدت جثامين الشهداء المتحللة بسبب منع الاحتلال سيارات الإسعاف من الوصول إليهم.
بعد 12 ساعة من المشي على الأقدام، وصلت رنا وأسرتها إلى النصيرات دون أن يتمكنوا من اصطحاب أي ملابس أو مرفقات شخصية.
استقر بها الحال في مدرسة شهداء النصيرات، حيث مكثت ثلاثة أشهر في أوضاع معيشية صعبة، أصابت أفراد الأسرة كحال سائر الغزيين بانخفاض في الدم ونقص في العناصر الغذائية، وجعلتهم عرضة للصقيع دون أن تتوفر لهم مستلزمات التدفئة كالبطانيات.
محطة النزوح الثالثة كانت عندما أجبرها القصف على التوجه إلى رفح، حيث اضطرت وزوجها إلى بيع هاتفيهما لتدبير مستلزمات خيمة بسيطة من الخشب والنايلون الرقيق، وبعض البطانيات التي حصلوا عليها من الناس.
أجبرهم الصقيع على العودة إلى النصيرات ليستقروا في أحد الفصول المدرسية، على اعتبار أن المبنى أكثر دفئًا من الخيمة.
وهناك استمرت المصائب في التكالب عليها، من انعدام الغذاء والملبس وغيره، حتى اضطرت إلى العمل من خلال مشروع فرن حديدي يوقد بالنايلون والكرتون لتجهيز الخبز للنازحين.
تعود بذاكرتها إلى تلك اللحظة قائلة: "ما كان في أكل ولا شرب، وأولادي ينامون على الأرض، وزوجي من غير شغل، دبرنا حالنا بعمل هذا المشروع، وكنا نخبز كل خمسة أرغفة بشيقل واحد، أحيانًا نقدر نشتري الزعتر وأحيانًا لا".
ملك ورياض.. أشلاء
في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2024، عند الحادية عشرة ظهرًا، كانت رنا تعمل من خلال هذا الفرن في الفصل ذاته الذي تقيم به، ويساعدها في إشعاله طفلاها رياض وملك، وإلى جوارهم أختهم جوري وأبوهم.
دون سابق إنذار، تعرضت المدرسة إلى غارة إسرائيلية، مثلت نقطة تحول في حياة رنا.
تنظر إلى جسدها الجريح، قائلة: "يدي بُترت، وظهري أصيب بالشظايا واحتاج إلى 80 غرزة، وشوهتني الحروق".
عند وقوع الغارة، شاهدت رنا يدها المبتورة، وطفلتها جوري (7 أعوام) المصابة بقدميها وعينها، وقد كانت تنتشل من تحت الردم.
أما رياض (12 عامًا) وملك (11 عامًا) فلم ترهما أمهما، وتحولا إلى أشلاء لم تمكن أحدًا من التعرف عليهما، إلا عبر قطعة من ملابسهما.
ينسكب الألم من صوتها دون توقف، وهي تقول: "ملك ورياض تقطعوا تقطيع فتافيت، ما لهمش ملامح".
وتنهمر منها الدموع، معبرة عن حرقة في قلبها، فقد تمنت لو احتضنتهما وودعتهما.
"يأكلها" العجز عن الحركة على سرير المستشفى، وقد توقع الطبيب سابقًا أن تستشهد لشدة إصابتها، وأن تدفن مع يدها المبتورة، وهي تتنقل حاليًا بين غرف العمليات الجراحية.
وأصيب زوجها بجراح بالغة في القدم واليد، ما أفقده أي قدرة على إعالة من بقي من أطفاله الذين تشتتوا بين المستشفى ومركز الإيواء.
وفي الغارة نفسها، استشهد 18 نازحًا، وفق إفادة رنا. ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، استشهد 45,885 غزيًا وأصيب 109,196 آخرون، معظمهم أطفال ونساء، بحسب وزارة الصحة.
تبكي رنا حالها الذي وصلت إليه، متسائلة: "أطفال إيه ذنبهم يحرموني منهم؟ موجوعة عليهم (...) ربنا بيصبرني، بس لما أتذكرهم قلبي بينحرق وبيتقطع".
وقبل أيام، جاءها ملك ورياض في منامها وقدما لها طبقًا من الفواكه وقالا لها: "خذي يا ماما"، فقالت لهم: "تعالوا مشتاقلكم"، لكنهما أجابا: "لا، خليكي عند إخوتنا".
تسرد ما رأت في منامها ولا تتمالك قلبها التائه بين جنبات الوجع، ثم تواسي نفسها بالقول: "الحمد لله، عصافير في الجنة، بيشفعولي يوم القيامة".