فلسطين أون لاين

ركضوا من الموت فسبقهم… أم فلسطينية تحكي وجع الفقد في غزة

...
ركضوا من الموت فسبقهم… أم فلسطينية تحكي وجع الفقد في غزة
غزة/ هدى الدلو:

تكابد راوية الشنشير، وهي أمٌّ فلسطينية من حيّ الصبرة، وجعًا لا يشبه أي وجع. في صوتها تختلط الكلمات بالدموع، وفي عينيها ألف صورة لفقدٍ لا ينتهي. في يوم 12 يناير/كانون الثاني 2024، خرجت في مشوارٍ قصير، وتركت أبناءها في البيت على أمل أن تعود سريعًا، لكنها لم تكن تعلم أن الحياة بعد هذا اليوم لن تعود كما كانت أبدًا.

"رجعت ألاقي الحارة كلها بتركض، والناس بتصرخ، وكلهم بيمنعوني أوصل، وأنا قلبي وقع، حاسّة إني فقدت كل إشي"، تقول راوية لصحيفة "فلسطين".

لم يخبرها أحد مباشرة، لكن علامات الألم في عيون الجيران كانت كفيلة بأن تزرع الرعب في قلب أم تركت أبناءها خلفها.

اقترب منها أحد أقاربها، نظر في عينيها المرتبكتين، وقال بهدوء حاول إخفاء الحقيقة: "روحي على مستشفى الشفاء… أولادك هناك مصابين"، لكنه لم يُخبرها أنهم رحلوا… وأن السماء خطفتهم قبل أن تصل.

وتضيف: "ما قدرت أركض، رجلي ما كانت شايلتني، روحي وصلت قبل جسمي"، وهناك، في مستشفى الشفاء، واجهت راوية الحقيقة الموجعة: ثلاثة من أبنائها استشهدوا. كانوا يركضون معًا هربًا من القصف، لكن صاروخًا من طائرة استطلاع سبقهم إلى الموت.

ولم يكن الفقد جديدًا على قلب راوية؛ فقبل أشهر فقط، اختطفت الحرب ابنها أحمد (18 عامًا). "كنت دايمًا أحكي لأحمد: إنت ضحكتي بهالبيت… واليوم راح الباقي"، تقول بصوتٍ مكسور.

وفي ممرات مستشفى الشفاء، حيث تختلط رائحة الدم بالحسرة، تلقّت صدمة أخرى مزّقت قلبها للمرة الثانية: استشهاد بكرها أنس (25 عامًا)، الذي لطالما حمل عبء العائلة على كتفيه، وطفلتها وئام (14 عامًا)، التي كانت تملأ البيت ضحكًا ودفئًا.

"أنس كان بكري ودرعي وسندي… أول واحد يصحى، وآخر واحد ينام، جهّز شقته وكان راح يزف بعد يومين… راح هو وعرسه وضحكته، راح الظهر اللي كنت أتسند عليه"، تقول راوية ويداها ترتجفان وهي تحتضن صورة ابنها.

أما أحمد، الذي ملأ البيت مزاحًا وضحكًا، وكان يقف أمام المرآة كل صباح قائلًا لأمه: "أنا العريس يا أمي!"، فقد رحل كما رحلت وئام، الطفلة الصمّاء التي تعلمت أمها لغة الإشارة من أجلها، قبل أن تحقق حلمها بأن تصبح معلمة.

بينما نجت وردة (24 عامًا) وولاء (17 عامًا)، لكنهما بقيتا بجراح لا يُرى عمقها… وردة أُصيبت إصابة بالغة في قدمها اليسرى، أفقدتها الوعي، ولم يتمكّن أحد من إسعافها في بادئ الأمر بسبب خطورة الوضع الميداني.

توضح راوية أنه بعد ساعات تمكّنت سيارات الإسعاف من الوصول إليها، وحاول الأطباء إنقاذ قدم وردة، التي كانت تعاني مسبقًا من صعوبات في التعلّم ورعشة في اليدين، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، خاصة بعد حصارهم داخل مستشفى أصدقاء المريض، ليُتَّخذ في نهاية المطاف قرار ببتر قدمها من أعلى الركبة.

وكان التأقلم صعبًا على وردة؛ فهي لا تستطيع استخدام العكازين بسبب الرعشة في يديها، ولم تتمكّن من التعامل مع الطرف الصناعي نتيجة وعورة الشوارع وغياب التهيئة المناسبة.

أما ولاء، فلا تزال تعاني من شظايا متناثرة في جسدها وكسر في يدها، استدعى تركيب بلاتين.

ورغم مرور قرابة عامين على المجزرة، فإن الفقد لا يزال يكوي قلب راوية كما لو أنه حدث أمس… ما زال الحلم يتكرر، وما زال كرسي أنس في الزاوية، وصورة أحمد في المرآة، وكأن صوته لا يزال يهمس: "أنا عريس يا أمي".

وتوجّه راوية رسالة إلى العالم: "أنا مش بس أم ثكلى… أنا شاهدة على مجازر بتصير كل يوم. إحنا مش أرقام ولا عناوين أخبار، إحنا بشر… أولادي كانوا نور عيني، مين يرجعهم لي؟".

المصدر / فلسطين أون لاين