كان آخر ظهور لميرفت الصوراني وأطفالها إبراهيم (18 عامًا)، وملاك (17 عامًا)، وسما بدر الدين (11 عامًا)، في هذه الحياة فجر التاسع من ديسمبر عام 2023، ولكن باب البحث عنهم ما يزال مفتوحًا حتى يومنا هذا. هل هم جثث دفنتها الأنقاض؟ أم أسرى بيد الاحتلال الإسرائيلي؟
مع بدء فصول الإبادة الجماعية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر عام 2023، أصر أطفالها على النزوح من مدينة غزة نحو جنوب القطاع، رغم أن رغبة ميرفت كانت معاكسة لهم، إذ فضّلت الصمود في مدينتها الأم، لكنها في نهاية المطاف رضخت لصوت أطفالها.
حياة ميرفت لم تكن سهلة، بل كانت مليئة بالصعاب منذ بداية زواجها حتى طلاقها وحضانتها لأطفالها. حاربت من أجل ضمان حياة كريمة لهم بلا عذابات، وانتهت حياتها باختفائها معهم.
تروي شقيقتها سوزان حكاية ميرفت وأطفالها تحت الأنقاض: "كانت ميرفت إنسانة قوية تحملت الكثير من الآلام. احتفلت بنجاح إبراهيم في الثانوية العامة، وحفظ ملاك القرآن كاملًا قبل شهرين من بداية الحرب، وهما أول وآخر فرحتين عاشتهما في حياتها".
تضيف سوزان لـ "فلسطين أون لاين": "رغب أطفالها في النجاة من هذه الحرب، ففضّلوا النزوح نحو الجنوب. ألححت عليهم بالنزوح إلى بيتي في دير البلح بالمحافظة الوسطى، لكنها فضّلت النزوح نحو خان يونس، إلى بيت أختي إيمان، التي نزحت قبلها من غزة نحو بيتها في خان يونس".
أقامت ميرفت في بيت أختها إيمان الواقع في شارع المحطة بالقرب من مربع التربية والتعليم شرق خان يونس، برفقة أطفالها.
كان بين نجاة ميرفت وأطفالها، ووالد زوج أختها إيمان وزوجته وابنه وابنته، والموت دقائق قليلة.
تروي سوزان اللحظات العصيبة التي مرت بها ميرفت: "مع اجتياح خان يونس، رفضت إيمان وعائلتها النزوح، إلا أنه مع اشتداد القصف واقتراب الدبابات الإسرائيلية من بيتها، جاءت سيارة لنقلهم. استقلت إيمان برفقة زوجها وأطفالها السيارة، التي أخذتهم إلى مكان بعيد عن القصف. عادت السيارة لنقل البقية، لكنها لم تصل البيت بسبب الحصار الذي فرضته الدبابات الإسرائيلية، وأصبحت المنطقة عسكرية مغلقة".
تتابع: "لم نصمت، تواصلنا مع الدفاع المدني والصليب الأحمر لإنقاذ ميرفت وعائلة زوج إيمان من المكان، لكن دون جدوى، إذ كان الجميع يقول إن المنطقة عسكرية خطرة ولا يمكن الاقتراب منها".
كان القصف شديدًا حول البيت الذي تحصنت فيه ميرفت وأطفالها. فجأة، دب دوي انفجار كبير تناثرت معه الشظايا في حوش البيت والطابق العلوي، ما أدى إلى استشهاد ثلاثة أفراد من عائلة إيمان: زوجة حماها، وابنه، وابنته. كما أصيبت ابنة ميرفت الصغيرة سما، وأصيبت ملاك أيضًا. وعندما عاود الاحتلال القصف، استشهد والد زوج إيمان.
عرفت سوزان وأخواتها وأمها هذه التفاصيل من ميرفت المحاصرة، حيث كانت تتواصل معهم عبر "واتساب". تروي ميرفت كيف تعاملت ملاك مع جراحها وسحبت أختها إلى البدروم، حيث احتمت مع والدتها وأخيها الوحيد إبراهيم.
في البدروم، حاولت ميرفت معالجة طفلتها سما، التي كان الدم ينزف من جميع أنحاء جسدها. تقول ميرفت لسوزان: "مش عارفة من وين النزيف، شو أضمد لما أضمد حتى أوقف النزيف، كل جسمي خروق".
ظل دم سما يسيل أمام والدتها، حتى تشاهدت وخرج الزبد من فمها وصعدت روحها إلى بارئها عصر الخامس من ديسمبر عام 2023.
لم تصدق سوزان وأخواتها خبر استشهاد سما. كانوا يحاولون التمسك بأمل بسيط قائلين: "شمّميها بصلة، أو عطرًا، أو سبيرتو، لعلها تستفيق".
وأخيرًا، تمكنت ميرفت من سماع صوت سوزان، الأقرب إلى قلبها من جميع أخواتها. كان صوت صراخها يخترق الهاتف: "ياريتني أنا ولا سما، ياريت يومي قبل يومها، أنا قصّرت مع أولادي، أنا ما حافظت عليهم، أنا ما طلعت من غزة إلا علشانهم".
بعد أن يأست، صارت ميرفت تبحث عن كيفية تكفين سما. أخذت غطائين معها إلى البدروم قبل قصف الطوابق العلوية، وكفّنت ابنتها ووضعتها على سرير قديم في الزاوية.
ولإكرام سما، حاول إبراهيم تسلق شباك البدروم الصغير واستراق بعض الرمال لتغطية جسدها بها.
خلال تلك الأيام، لم تترك سوزان وسيلة لإجلاء أختها وإنقاذها. أرسلت مناشدات عبر الراديو، والهلال الأحمر، والصليب الأحمر، والدفاع المدني.
في الثامن من ديسمبر، كان آخر اتصال مع ميرفت، حيث أخبرت أخواتها ووالدتها أنها تعبت وتريد الراحة. عاتبتهم قائلة: "إيش أعمل؟ انتو مش قادرين تلاقوا حل". وكان الجواب مليئًا باليأس: "عملنا كل ما بوسعنا، وما لك سوى مناجاة رب العباد بأسمائه الحسنى".
وفجر التاسع من ديسمبر، اختفت ميرفت عن الظهور على "واتساب"، وبقي المكان خطرًا حتى انسحب الاحتلال الإسرائيلي منه بعد خمسة أشهر.
ووفق سوزان، بعض الجيران والأقارب تجرأوا على الاقتراب من البيت، ليتفاجؤوا بأن الطوابق الثلاثة انهارت فوق ميرفت وأطفالها في البدروم. حاولوا البحث عن أي رفات لهم، لكنهم لم يجدوا شيئًا.
تبيّن سوزان أنها في تلك اللحظة جددت الأمل لديها ولدى عائلتها، بأن تكون ميرفت وأطفالها من الأسرى. تواصلوا مع الصليب الأحمر للبحث عنهم في سجون الاحتلال، لكن الجواب كان أن أسمائهم ليست موجودة.
كثيرًا ما تأتي ميرفت وأطفالها في أحلام أخواتها، يخبرونهم أنهم أحياء ويعيشون في سعادة.
من منطلق إكرام الميت دفنه، تتمنى سوزان أن تنتهي الحرب لتمكينهم من انتشال جثث ميرفت وأطفالها من تحت الأنقاض. الحرب شتّت عائلتها، وأختها إيمان سافرت نحو مصر وتحاول الهجرة، هربًا من المآسي التي عاشتها، ولتنسى ما حدث لأختها التي عاشت معها آخر أيام حياتها.