كان آخر ما أدركته الغزية ريهام الشامي في ليلة ظلماء من حياتها هو انشغال أطفالها بمشاهدة الأناشيد هربا من واقع حرب الإبادة الجماعية، وفي اليوم التالي وجدت نفسها جريحة على سرير المستشفى، وقد دفنت أسرتها باستثناء ابنها "جعفر".
وحيدان في غياهب الفقد والوجع والإصابة، يعيش كل من ريهام (34 عاما) وجعفر (4 أعوام) دون أن يعرفا لماذا فقدا أسرتهما؟ وبأي ذنب قتل الاحتلال أطفالها: جنى وجنات وندى وتالا ومعاذ وأباهم.
تسيل الدموع الساخنة من الأم المكلومة التي بترت قدمها اليمنى وكسرت اليسرى، ولا شيء يطفئ لهيب النيران المشتعلة في قلبها، أو يربت على كتفها المثقل بحجم الجريمة، أو يجفف أنهار وجع تتساقط من عينيها.
"الاحتلال استهدف بيتنا ونحن بداخله"، تقول ريهام لصحيفة "فلسطين" في غمرة ألمها. فعند العاشرة والنصف من ليل 23 مايو/أيار، سقط الصاروخ الذي أطلقته طائرة حربية بدون طيار في صالة بيتها المسقوف بالأسبست، حيث كانت الأسرة تصطنع بعض الدفء والأمان الذي سلبته حرب الإبادة الجماعية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في تلك اللحظة كانت البنات الأربعة وأخوهم معاذ في صالة البيت وعلى بعد خطوات يقف أبوهم، بينما كانت الأم وطفلها جعفر وهو توأم معاذ في غرفة النوم، بعد أن تدبرت بمعاناة أمر توفير طعام العشاء لهم وسط حرب التجويع والتعطيش. حدث ذلك دون سابق إنذار، كما تؤكد ريهام وهي توزع نظرات الحسرة على نفسها وعلى طفلها جعفر رفيقها في المستشفى.
وحول الصاروخ الإسرائيلي أنبوبة غاز اقتنتها الأسرة حديثا إلى نقمة، عندما أدى إلى انفجارها لتزيد من قوة الضربة الجوية المباغتة.
وعلى الفور، استشهد أطفالها الذين يبلغ أكبرهم 14 عاما وأبوهم، بينما طارت الأم إلى خارج البيت، حاملة معها جراحها وبداية حاضر مؤلم ومستقبل مجهول. تشير إلى جعفر بيد مرتعشة، قائلة بنبرات يغمرها الحزن: "ضليت أنا وابني هدا"، الذي كان يتغلب على واقع إصابته بمشاهدة أناشيد الأطفال أيضا.
وأجبرت الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة والاجتياحات ريهام وأسرتها على الانتقال من بيتها في جحر الديك إلى منزل صغير آخر تملكه في النصيرات وسط القطاع، ثم أجبرت على النزوح إلى البريج، وعادت مجددا إلى النصيرات حيث وقعت الفاجعة.
هي معاناة مركبة انصبت على ريهام، التي انتشلت من تحت الأنقاض وقد تساقطت أعمدة المنزل على قدمها اليسرى ما أدى إلى بتر جزء منها، وإصابة الأخرى بكسور.
تجتمع عليها الأوجاع، وهي تشرح خطورة الإصابة بقولها: الكسور في الركبة إذ إنها مفتتة وتحتاج إلى تغيير مفصل وزراعة عظام، وهناك كسور أخرى تستدعي تركيب بلاتين داخليا، ولكن ذلك يتطلب سفري إلى الخارج.
ولكن الأمل في سفرها لتلقي العلاج يتلاشى مع الاحتلال الإسرائيلي للجانب الفلسطيني من معبر رفح البري ولطول حدود القطاع مع مصر منذ مايو/أيار، عدا عن تحكمه ببوابات غزة مع الأراضي المحتلة.
وينطبق ذلك على جعفر أيضا، الذي أصيب بكسر في مفصل قدمه ومشاكل بالأوتار وكان معرضا للبتر "لولا ستر الله"، والكلام لأمه.
وينكأ جراح ريهام أنها حرمت من وداع أبنائها وزوجها الشهداء بسبب ظروف إصابتها. ويعكس بريق عينيها حكايات ومواقف لا تنساها مع بناتها اللواتي تصفهن بأنهن "كل حياتها".
والبنات الأربعة كن من الأوائل على الطالبات في مراحلهن الدراسية المختلفة، وجمعهن حلم دراسة الطب. هنا تحبس الأم أنفاسها، ويضيق صدرها، وتذرف المزيد من دموعها: "ما الهم نصيب بتحقيق أحلامهم".
ولطالما حدثت جنى والدتها عن طموحها بالتخصص في طب النساء والتوليد لتخفيف أوجاع الأمهات في أثناء الولادة، ولتحقيق هذا الهدف كانت حريصة على التعلم حتى في خضم الحرب وتداعياتها وأحضرت كتب المرحلة الدراسية التالية وهي الصف الثاني الإعدادي لتهيئة نفسها لها.
أما جنات فكانت تريد التخصص في طب الأسنان، ومثل حب التعلم قاسما مشتركا مع شقيقتها جنى، وعندما فشلت في العثور على الكتب الدراسية الخاصة بمرحلتها التعليمية، لجأت لتصفح الموسوعات العلمية. بينما ندى المولعة في طب الأعصاب، كانت منشغلة في توفير مستلزمات الحياة كماء الغسل والشرب الشحيح في غزة، وتساعدها في ذلك أخواتها، وكن يذهبن إلى مركز للإيواء للحصول على بعض منه.
تذكر الأم عن طفلتها ندى أنها "كانت تلبي طلباتي وطلبات البيت خلال الحرب، وتوفير كل شيء صعب ويحتاج إلى البحث عنه ذهابا وإيابا".
وكن جميعا يتمتعن بالجرأة - تواصل الأم حديثها - ولم يخفن بداية من الحرب وقلن لوالدتهن: "ايش بدو يصير فينا؟ بدنا نموت؟ بنروح عند ربنا على الجنة".
تضيف: عندما كنت أهم بالنزوح قسرا إلى أحد مراكز الإيواء بسبب القصف، كن يرفضن ويقلن لي: "نريد أن نموت في بيتنا"، لكن الخوف تسلل إليهن مع اشتداد وتيرة الإبادة الجماعية.
والآن لا تعرف ريهام أي كابوس هذا الذي تعيشه، وأي مصير ينتظرها وطفلها جعفر وهما مصابان، وقد تركتهما هذه الفاجعة وحيدين.
وريهام هي واحدة من ضحايا حرب الإبادة الجماعية التي أودت حتى الآن بحياة 54.581 وأصابت 108.438 غزيا، معظمهم أطفال ونساء، وفق وزارة الصحة.
"لا يسعني التفكير بما سيحدث في حياتي طالما أنا هنا مصابة"، تتابع ريهام المغلوبة على أمرها. ورغم المصاعب الحالية، ينتابها الأمل في تركيب طرف صناعي لقدمها المبتورة، وفي شفاء جعفر. لكن الجراح النفسية النازفة في قلبها "تأكلها" وطفلها، دون أن يعرفا لها دواء أو نهاية.