في حرب مستعرة منذ السابع من أكتوبر 2023، يُسجل قطاع غزة صفحات دامية في تاريخ الإنسانية. هنا حيث تتحول الحياة إلى أطلال، يُمحى وجود العائلات الفلسطينية بأكملها في لحظة خاطفة تحت وطأة غارات حربية لا تُفرّق بين منزل آمن وهدف عسكري، أطفال رُضَّع، لم يكتمل عُمرهم سوى بأيام أو أشهر، يُنتشلون من تحت الأنقاض، وقد اختُتِمت حياتهم قبل أن تبدأ.
في هذه الحرب، لم تكن القنابل تُلقي حمولتها على الحجر فقط، بل استهدفت الوجوه البريئة، والأسماء التي لم تُدوَّن بعد في دفاتر المدارس، عائلات كانت تحلم بغدٍ بسيط، وجدت نفسها أشلاءً متناثرة في حضن الليل، ليغدو الموت هو الزائر الوحيد في كل بيت.
خلفت هذه الحرب المستمرة نحو 10 آلاف مجزرة، بينها أكثر من 7160 مجزرة استهدفت عائلات بأكملها، وفي مشهد يُجسد أقسى درجات الوحشية، قُتل 1091 طفلاً رضيعاً، لتتحول الحرب إلى كارثة إنسانية تُفني الأرواح وتهدم كل معالم الحياة.
على حطام منزله الذي كان يوماً ما يعج بأصوات عائلته الكبيرة، جلس معين العشي بعيون مثقلة بالحزن تكشف عن وجع أكبر من الكلمات، يقول لـ "فلسطين أون لاين": "كانت ليلة عادية، كنا مجتمعين حول مائدة العشاء، لم يكن هناك ما ينذر بالمأساة".
إبادة جماعية
في تلك الليلة المشؤومة، استهدفت غارة إسرائيلية منزل عائلة العشي في حي الرمال بغزة، ما أدى إلى إبادة 14 فرداً من عائلته، بمن فيهم والده، ووالدته، وأشقاؤه، وزوجاتهم وأطفالهم، "لم أكن أتصور أن دقيقة واحدة يمكن أن تمحو كل شيء، كأن الحياة انطفأت فجأة"، قال بصوت مبحوح.
الشاب العشي، الناجي الوحيد من عائلته إلى جانب شقيقته الصغرى نور، البالغة من العمر 16 عاماً، كان قد خرج من الغرفة الرئيسية إلى المطبخ قبل لحظات من الغارة، في حين كانت نور في غرفة أخرى تبحث عن كتابها المدرسي.
"سمعت صوتاً هائلاً، ووجدت نفسي وسط الركام، كل شيء تحول إلى ظلام وغبار"، يروي العشي.
حاول الشاب الصراخ، لكنه لم يسمع سوى صوت أزيز طائرات الاستطلاع، عندما أفاق، وجد نور بين الأنقاض تبكي بصوت مخنوق، تنادي أسماء أفراد العائلة الذين لم يعد لهم وجود.
يضيف العشي: "لم يكن هناك شيء أفعله سوى حمل نور والخروج إلى الشارع، حيث وجدت الجيران يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنهم قالوا لي: لا أحد بقي على قيد الحياة".
كل ما يحلم به العشي اليوم هو أن تأخذ العدالة الدولية مجراها بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وقال: "أريد أن يعرف العالم أن عائلتي لم تكن هدفاً عسكرياً، كانوا فقط يحلمون بحياة آمنة".
وتشير تقارير حقوقية محلية ودولية إلى أن جيش الاحتلال استهدف المدنيين بشكل متعمد، حيث تم تدمير أحياء سكنية بأكملها، ومحو عائلات من السجلات المدنية.
مذكرات اعتقال
وكانت المحكمة الجنائية الدولية، أصدرت مؤخرًا، مذكرتي اعتقال دوليتين بحق رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير جيشه يوآف غالانت، بتهمة "ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب خلال الحرب على قطاع غزة".
وارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، نحو 10 آلاف مجزرة دموية، من بينها (7160) مجزرة ارتكبت بحق العائلات الفلسطينية، بحسب ما أفاد به مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة لـ"فلسطين أون لاين".
وأوضح أن (1410) عائلات فلسطينية أبادها الاحتلال ومسحها من السجل المدني، بقتل الأب والأم وجميع أفراد الأسرة، وعدد أفراد هذه العائلات نحو 5500 شهيداً، و(3463) عائلة فلسطينية أبادها الاحتلال، ولم يتبقَّ منها سوى فرد واحد، وعدد أفراد هذه العائلات 7934 شهيداً.
ولفت الثوابتة النظر إلى أن هذه المجازر خلفت (35) ألف طفل يعيشون بدون والديهم، أو بدون أحدهما، في حين هناك أكثر من 12 ألف امرأة فقدت زوجها خلال حرب الإبادة الجماعية.
ووفقًا لآخر إحصاءات وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، بلغ عدد شهداء هذه الحرب أكثر من 45 ألف شهيد، وصلوا إلى المستشفيات، و11 ألف مفقود لم يصلوا للمستشفيات، وهم في الغالب شهداء عالقين أسفل المنازل المدمرة لم تستطع وحدات الإنقاذ الوصول إليهم، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 108 آلاف مواطن.
كما قتل جيش الاحتلال 1091 طفلًا رضيعًا خلال حرب الإبادة الجماعية المستمرة.
وبحسب الثوابتة فقد قتل جيش الاحتلال 238 رضيعًا وُلِدوا واستشهدوا في الحرب، إضافة إلى 853 رضيعًا ولدوا قبل الحرب، واستشهدوا قبل أن يتجاوز عمرهم العام الأول.
وأضاف أن "هذه الجرائم التي تستهدف الفئات الأكثر ضعفًا وحاجة للرعاية والحماية، تعكس مستوى غير مسبوق من الوحشية الإسرائيلية الممنهجة في غزة".
وتابع: "يعاني الفلسطينيون من واقع يفضح ازدواجية المعايير الدولية، فالمذابح التي تُرتكب بحق المدنيين الفلسطينيين توثقها الكاميرات وتقارير المنظمات، ومع ذلك يظل المجتمع الدولي عاجزًا عن التحرك".
وطالب الثوابتة بضرورة تنفيذ قرار محكمة الجنايات الدولية باعتقال نتنياهو وقادة جيشه، "العالم اليوم أمام اختبار حقيقي لمنع هؤلاء المجرمين من الإفلات من العقاب، إذا أراد العالم أن يمنع تكرار جرائم الإبادة، فعليه أن يحاسب القتلة مثل نتنياهو وغالانت".