تحت وطأة منخفض جوي قاس ضرب قطاع غزة، تحوَّلت مخيمات النزوح إلى مستنقعات من المياه والوحل بفعل الأمطار الغزيرة التي لم تترك زاوية جافة في خيام النازحين.
المشهد يوثق معاناة قاسية، خيام ممزقة، أرض موحلة يصعب السير عليها، وأطفال يحاولون التوازن وسط الطين الذي يلتصق بأقدامهم الصغيرة.
النازحون الذين لجأوا إلى هذه المخيمات بعد أن فقدوا منازلهم بفعل الحرب، وجدوا أنفسهم الآن غارقين في معركة جديدة مع الطبيعة، والطين الذي اجتاح خيامهم جعل التنقل مهمة شبه مستحيلة، بينما تحولت الأمطار إلى كابوس يهدد ما تبقى لديهم من ملاذ هش.
في مخيم عمارة بلدية دير البلح وسط قطاع غزة، تتكدس مأساة أسرة محمد حسن مع كل يوم جديد. الأمطار الغزيرة التي هطلت الليلة الماضية أغرقت خيمتهم المهترئة، وحولت الأرض المحيطة إلى بحر من الطين.
يقول حسن الأب الخمسيني الذي فقد منزله في شمال غزة ولديه 7 أبناء لصحيفة "فلسطين": "أمضينا الليل في محاولة إخراج الماء من الخيمة، لكن دون جدوى. كل شيء غرق، ملابسنا، فراشنا، وحتى الطعام الذي كنا نحتفظ به أصبح غير صالح للأكل".
الأطفال هم الأكثر معاناة، حيث تحكي سارة، الابنة الكبرى ذات العشرة أعوام: "كنت أحاول الذهاب لجلب الماء من النقطة القريبة، لكن الطين جعلني أتعثر وسقطت مرتين. الآن ملابسي مغطاة بالطين، ولا أملك غيرها".
الخيمة نفسها لم تعد صالحة للسكن، الثقوب الكبيرة في سقفها وجدرانها تسمح للمطر بالدخول بسهولة. يقول حسن: "هذه الخيمة أصبحت كالكابوس. في الليل نسمع صوت المطر يتساقط فوق رؤوسنا، ونحن نحاول حماية الأطفال من البرد، واستيقظنا وقد امتلأت جميع البطانيات بالماء وأصبحت مبللة".
كانت الأم تجلس على طرف الخيمة، تحاول تنظيف إناء طهي غمره الطين، وتقول بمرارة: "لا نستطيع التحرك في هذه الأرض الطينية، كل خطوة تحتاج جهدا كبيرا، والأطفال يسقطون كلما حاولوا السير. أحذيتنا ممتلئة بالطين، حتى إننا أحيانا نضطر لخلعها والمشي حفاة".
وناشدت الأم العالم بعيون مليئة بالحزن: "أين الإنسانية؟ نحتاج شوادر وخياما جيدة تقي أطفالنا. هذه الحرب دمرت كل شيء في حياتنا، والآن لا نجد حتى مكانا نحتمي فيه من المطر".
بالإضافة إلى حاجتهم للمأوى، تطالب الأم بضرورة إدخال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل، قائلًا: "نحتاج طعامًا، أدوية، وأدوات للتدفئة. لا يمكننا الاستمرار هكذا، فنحن نعيش بلا كرامة، وأطفالنا يدفعون الثمن".
هذه الأسرة ليست الوحيدة التي تعاني في مخيم عمارة، فالمشهد يتكرر في جميع الخيام التي أصبحت غير صالحة للسكن بفعل الأمطار والطين، وينتقل ذات المشهد ليعم المخيمات الأخرى في جميع محافظات جنوب القطاع.
كابوس الشتاء
في بلدة الزوايدة وسط قطاع غزة، تعيش أسرة عمر المغني كابوسًا يوميًا تحت خيمة بالكاد تقيهم من برد الشتاء وأمطاره.
الليلة الماضية، اجتاحت الأمطار الغزيرة خيمتهم، لتغرق أدواتهم القليلة وبطانياتهم التي كانوا يعتمدون عليها للتدفئة. يقول المغني، وهو أب لخمسة أطفال لـ"فلسطين": "استيقظنا على صوت المطر يتسرب إلى داخل الخيمة. حاولنا بكل ما نملك حماية ما تبقى من أشيائنا، لكن دون جدوى. حتى البطانيات التي كنا نستخدمها أصبحت مبللة وغير صالحة للاستخدام".
حولت الأمطار المنطقة المحيطة بخيمتهم إلى مستنقع طيني يصعب التنقل فيه. تقول أم محمود، زوجة المغني: "لا يمكننا التحرك خطوة واحدة خارج الخيمة دون أن نغوص في الطين. حتى الأطفال أصبحوا محاصرين؛ لا يمكنهم اللعب أو حتى الخروج لجلب الماء أو الطعام".
المعاناة تمتد إلى أبسط تفاصيل حياتهم اليومية. تحكي أم محمود: "لا يوجد مكان لتجفيف ملابسنا أو أدواتنا. كل شيء غارق في الماء والطين. حتى الطهي أصبح مستحيلا، لأن النار تنطفئ بمجرد إشعالها بسبب الرطوبة والطين المحيط بنا".
يقول محمود، الابن الأكبر الذي يبلغ من العمر 12 عاما: "أردت مساعدة أبي في تنظيف الخيمة، لكن كلما خرجت، أعود مغطى بالطين. لا أستطيع الذهاب لجلب الطعام أو الماء، والطين يلتصق بأقدامي".
وتجد أسرة المغني نفسها محاصرة بين الغرق بالمطر والغوص في وحل الطين، دون أي أمل في تحسن الأوضاع. يناشد المغني الجهات المعنية والعالم بأسره، قائلا: "نحتاج إلى خيام أفضل وشوادر قوية تحمينا من المطر. أطفالنا يعانون من البرد والجوع، ونحن عاجزون عن فعل أي شيء. حياتنا أصبحت كابوسا لا ينتهي".
تحذيرات أممية
وحذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) من أن الأمطار والفيضانات المتوقعة في قطاع غزة ستفاقم الظروف المعيشية المتدهورة للسكان، مما يزيد من المخاطر الصحية ويهدد بنزوح المزيد من العائلات.
يأتي هذا في وقت يعاني فيه القطاع من نقص حاد في الموارد الإنسانية الضرورية بسبب القيود المفروضة على دخول المواد الإغاثية والوقود.
وأوضح المكتب في أحدث تقرير له، أن موسم الأمطار الثاني منذ بدء الصراع المستمر في غزة قبل أكثر من عام، سيفاقم احتياجات السكان، مشيرا إلى أن الأمطار قد تؤدي إلى فيضانات تغمر مناطق واسعة، مما يعيق الحركة ويزيد من صعوبة توفير المساعدات.
وذكر التقرير أن أكثر من 215 مكانا للتعلم المؤقت، تخدم ما يقرب من 34 ألف طفل، معرضة للتأثر الشديد بالفيضانات.
ومن جهة أخرى، أظهر تحديث صادر عن مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية أن 66% من المباني في غزة لحقت بها أضرار متفاوتة بسبب الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وتضمن التقييم، الذي استند إلى صور عالية الدقة، أن 52,564 مبنى دُمر بالكامل، في حين تضرر 18,913 مبنى بشدة، وتأثر 35,591 مبنى بشكل جزئي.