في الصورة يقف الصحفي محمد بعلوشة على قدمه المصابة وهو يؤدي رسالته الإعلامية أمام الكاميرا يرتدي خوذة ودرعا صحفيا، يكتم ألمه ليعبر عن ألم الناس، يخفي جراحه عن عيون الكاميرا ليرى العالم جرح الوطن النازف والدمار خلفه، لم ير المشاهد بنطاله المشروط وفي قدمه مثبت عظام (بلاتين) جراء إصابة تعرض لها، يتحامل على نفسه ليحمل الوطن على كتفه وليبوح عن تفاصيل ألم يعيشه الناس في مدينة غزة وشمال القطاع.
رغم الإصابة لم يتخل الصحفي بعلوشة عن دوره المهني، فبقي على رأسه عمله يوثق جرائم الاحتلال الإسرائيلي، حتى مساء 14 ديسمبر/ كانون أول 2024، عندما وصلت رسالة هاتفية لزوجته "فاطمة" النازحة هي وأطفالها في جنوب قطاع غزة، وقبلها بساعة أنهت مكالمة هاتفية جمعتها بزوجها، وبقيت قلقة ترفض عيناها إسدال ستائر النوم، يداهمهم قلق لا تعرف سببه.
المكالمة الأخيرة
رغم محاولته خلال المكالمة طمأنتها بأنه سيكون بخير، وأن "لا تقلق عليه، وسيبقى بخير حتى يلتقيا" وهذا الوعد يجدده في كل مكالمة هاتفية حتى لا تشعر في الخوف عليه، وأنه بعيد عن مصدر الخطر، إلا أن قلبها بعد تلك المكالمة الهاتفية دق أجراس القلق في داخلها، وكانت تشعر أنه "سيستشهد" مدركةً حجم الإبادة الجماعية التي يتعرض إليها الصحفيون شمال القطاع، في محاولة من الاحتلال لفقأ عين الحقيقية، وإخفاء الأدلة على جرائمه.
أسرعت زوجته التي تُكنى "أم حامد" نحو الهاتف، لتقرأ الرسالة الهاتفية، وكانت من صديق زوجها يخبرها بـ "إصابته وهو بحالة خطرة" وكأنَّه هيأها لتلقي الخبر الصادم. لدقائق غرقت في حيرتها وأسئلة كثيرة لم تجد إجابة لها، تمنت أن تكون فعلاً إصابة، وأن لا يصدق حدس قلبها، ألحت على صاحب الرسالة باتصال آخر، ليؤكد خبر استشهاده.
تصفحت زوجته المواقع الإخبارية، عله يكون تشابه أسماء، تتعلق بقشة من أمل، فهي التي انتظرت عامًا كاملاً نازحة جنوب القطاع، بعيدة عن زوجها، تنتظر لحظة لقاء بعدما فرقتهم الحرب، تتحسس أخبار التهدئة وإعلان وقف إطلاق النار، لأجل اللقاء المنتظر على أمل أن يلتم شمل العائلة، لا أن يصل الموت إلى زوجها قبلها.
قتلت صورة زوجها التي امتلأت بها المواقع الإخبارية، أي أمل بأن يكون هناك تشابه أسماء، تأكدت أن الشهيد هو زوجها، في لحظة خارت قواها، وانهمرت دموعها، ونزف قلبها، وقتل الاحتلال حلمها بلقاء زوجها، وزاد قسوة الفقد حرمانها هي وأطفالها من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمانه.
كانت تنظر من بعيد لصور أرسلت لها عبر الهاتف، لمراسم الدفن، بقلب مكسور وعيون باكية، وبجانبها أطفالها حامد (12 عاما) ويامن (10 أعوام) ومجد (5 أعوام) وكرم (عامان ونصف) والذين كانوا ينتظرون لقاء والدهم على أحر من الجمر، ويخبرونه بشوقهم الكبير له في كل مكالمة هاتفية، وهو يعدهم أنهم سيجتمعوا ولن يفرقهم شيء.
بقلبها المكلوم ترحل ذاكرتها في حديثها لـ "فلسطين أون لاين" للحظة النزوح، "كانت لحظة صعبة لأن محمد أخذ قرارا وأصر عليه أن يبقى صامدا في شمال القطاع ولن يتزحزح، وتركني مخيرة في نزوحي مع أطفالي، وحرصا على سلامة الأطفال اخترت النزوح على أمل أنها فترة قصيرة وسنعود لبيتنا، ولو كنت أعلم أن المدة ستطول لما تركته ولبقيته بجانبه".
"آخر حديث بيننا، كان الساعة الحادية عشرة مساء في ليلة استشهاده، تحدثنا عن الأولاد ومواقفهم، أخبرني أن مياه الشرب نفدت من عنده، وأنه سيذهب للاطمئنان على قدمه المصابة، لكني عارضت ذلك نظرا لخطورة الوضع في منزلنا القريب من "أرض الشنطي" الواقع بمنطقة الصفطاوي شمال مدينة غزة وبشارع مستشفى الكرامة والتي تشهد توغلا لجيش الاحتلال ولا يتوقف بها القصف المدفعي" تقول زوجته.
مثل الصحفي بعلوشة إضافة للإعلام الفلسطيني على مدار 14 عاما تنقل خلالها عبر وسائل عديدة، بدأت مسيرته الإعلامية بالعمل بإذاعة صوت الشعب عام 2007، ثم مراسلا لقناة الدنيا السورية في عام 2011، وبعدها مراسلا لقناة الوطنية وللإخبارية السعودية، وختم مسيرته مراسلا لقناة "المشهد".
في 15 ديسمبر/ كانون اول 2023 أصيب الصحفي بعلوشة بقدميه برصاص قناص أثناء تغطيته الصحفية، وبقي يعاني من إصابته حتى استشهاده قبل يوم واحد من تاريخ إصابته بتاريخ 14 ديسمبر/ كانون ثاني 2024.
بقي شهرا دون علاج نظرا لاقتحام جيش الاحتلال لمستشفى الشفاء، وتدمير المنظومة الصحية وغياب الدواء والعمليات، وظل يتألم بشدة بلا مسكنات أو جرعات أدوية، وهي تفاصيل تسردها زوجته "لم يستطع الوصول للمشفى لمدة شهر وكان يعالج نفسه ولأنه قوي استطاع تجاوز ألم الإصابة، وبعد ذلك تلقى العلاج وأجرى عملية جراحية، ثم انخرط في العمل رغم وجود مثبت العظام في قدمه".
تصفه زوجته بأنه "طيب وحنون" يحب الخير للكل، ومساعدة الآخرين "كان زاهدا في الدنيا" يحب عمله الصحفي ويضعه في المرتبة الأولى في حياته، ظل لوحده في عمارته السكنية وكان أصدقاؤه يترددون عليه بين الحين والآخر.
فرحة لم تكتمل
في آخر منشوراته على صفحته على "فيسبوك" أصابته غصة لوقف إطلاق النار في لبنان دون غزة، وهو الذي كان يتوق لرؤية أطفاله، فكتب: "ومرت الأيام حتى انتهت (إسرائيل) من ساحة لبنان، وستبقى غزة تنزف دمًا لأنها ساحة القتال الرئيسية بالنسبة لها، وهذا ما جاهر به نتنياهو في إعلان وقف إطلاق النار. موت وقصف ودمار وظلم يملأ كل مكان في غزة، لكنني على يقين بأن على أرضها ما يستحق الحياة".
وقبلها بيوم، نشر آخر صورة له يلف رأسه بالكوفية، ويظهر خلفه دمار خلفه الاحتلال في محيط منطقته، وأرفق مع الصورة نصا كتب فيه: "موت وقصف ودمار وظلم يملأ كل مكان في غزة، لكنني على يقين بأن على أرضها ما يستحق الحياة".
كان يشبه ما يحدث بما عرضه مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، فكتب في 26 سبتمبر/ أيلول: "شاهدت المسلسل ١٥ مرة وربما أكثر، وكل مرة أجده أجمل وأروع توثيق لماضي الشعب الفلسطيني، والماضي المرير يتكرر حالياً مع فارق التوقيت والتحديثات التي تصاحبه. شكراً حاتم علي.. ولروحك الرحمة والسلام".
عن الواقع الصعب شمال غزة، قال في منشور نشره بتاريخ 16 آب/ أغسطس: "انتهت جميع حلول الأرض، انتهى المخزون اللغوي والثبات العقلي لوصف ما يجري في غزة ، نستودعك اللهم أنفسنا وأهلنا وأحبتنا وأيامنا القادمة، فلا يعلم خفاياها إلا أنت، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك".
أما صديقه منذر أبو نحل والذي يعمل بمجال التصميم والمونتاج بإحدى القنوات الإخبارية، فتعرف عليه عام 2010، وجمعهم العمل في الوكالة الوطنية للإعلام، عندما كان بعلوشة مراسلا لقناة الدنيا، وعمل في الوكالة الوطنية في قسم الأخبار.
يقول أبو نحل لـ "فلسطين أون لاين" عن صديقه الشهيد: "لو أردنا التحدث عن صفاته فلن نجد كلمات توصفه، أو توفيه حقه من شدة ما هو إنسان جميل وخلوق ورائع وأديب ومثقف، غطى الحرب الحالية بقدم مصابة لأجل إكمال التغطية وفضح جرائم الاحتلال".
ورغم أن أبو نحل كان مومنتجا للتقارير المرئية للعديد من المراسلين للقنوات الفضائية، إلا أن بعلوشة من المراسلين الذين أحب عملهم وعايش ذلك عن قرب "كنت أحب عمله فكان شخصا مبدعا فيه، غطى الكثير من الحروب والأحداث وكان مراسلا لقنوات محلية ودولية".