في البيت الأبيض يجيدون صناعة الشعارات لكنهم يفشلون بترويجها، يرهقون بها آذان الناس حول العالم، وخصوصا حول قضية فلسطين، لكن معظمهم لا يصدقونها، أو من الأساس لا يعيرونها اهتماما، فما هذا الصيت الذي صنعته واشنطن لنفسها؟
إنهم يتغنون بـ"الإنسانية" ويصدعون رؤوسنا بروايات الدفاع عنها، لكنهم يذهبون بنا إلى البحر ويعيدوننا عطشى، ويسمعوننا جعجعة ولا يروننا طحينا!
الرئيس الأمريكي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن وبطانتهما مدينون لنا حقا بالعلاج من هذا الصداع!
يبيعوننا الوهم بالدعوة المزعومة لـ"تجنب المدنيين"، وادعاءات الحرص على "وقف إطلاق النار" في غزة، لكنهم يرون أن ذلك له طريق واحد هو فرض إرادة الاحتلال في الأرض الفلسطينية.
وإرادة الاحتلال التي يطبقها على الأرض يعبر عنها إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ومن لف لفهم الذين يريدون احتلال قطاع غزة وتهجير أهله وفرض السيطرة على الضفة الغربية وتبديد إمكانية إقامة دولة فلسطينية.
والإنسانية في نظر الإدارة الأمريكية معناها إعطاء الضوء الأخضر لـ(إسرائيل) لقتل وإصابة أكثر من 150 ألف غزي معظمهم أطفال ونساء، وتدمير البنية التحتية في قطاع غزة، ومعظم المنازل والمنشآت.
ومعناها أيضا السماح بتجويع وتعطيش 2.3 مليون إنسان في غزة لأكثر من سنة، والتطهير العرقي لعشرات الآلاف في محافظة شمال القطاع.
وأيضا تشريد مئات الآلاف من الغزيين والزج بهم في شريط ضيق يفترشون فيه الأرض ويلتحفون السماء، وحرمانهم من العودة إلى بيوتهم، أو بالأحرى إلى أنقاضها، ومنعهم من حق الوصول إلى مستشفيات ومدارس وجامعات آمنة.
معزولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يختار حكام البيت الأبيض أن تكون بلادهم، كلما هب العالم لتأكيد الحق الفلسطيني في وقف حرب الإبادة الجماعية بغزة أو تقرير المصير أو إدانة الاستيطان.
وتجلى ذلك أخيرا في تصويت المندوب الأمريكي بـ"ضد" لإحباط قرار أممي يطالب بـ"وقف إطلاق النار" في غزة.
ولو أن واشنطن بإمكانها استخدام حق النقض "الفيتو" لإسقاط القرارات المؤكدة لحقوق الشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة لفعلت كما اعتادت في مجلس الأمن الدولي العاجز بسببها عن وضع حد للاحتلال الإسرائيلي الطويل.
وأظن أن مندوب واشنطن في الأمم المتحدة لا يقرأ، أو لا يعقل، أو كلاهما، وهو جاهز للتصويت بـ"ضد" أمام أي قرار يقول العالم إنه حق، إلا إدارة بلاده وبعض المصفقين لها بناء على المصالح المشتركة التي تعمي الأبصار والبصائر.
إنهم يتبعونها كأغنام في قطيع يرشده حمار.
وحتى القرار اليتيم الذي امتنعت إدارة باراك أوباما عن التصويت بشأنه قبل ثمانية أعوام وتبناه مجلس الأمن لإدانة الاستيطان في الضفة الغربية بقي حبرا على ورق.
وعلى أرض الواقع تجاوز دونالد ترامب، الذي يجهز نفسه ليعود حاكما للبيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني، كل الخطوط الحمراء الأممية وداس على القوانين الدولية ومنح في العام التالي ما لا يملك "القدس" لمن لا يستحق (إسرائيل)، كما "أهداها" فوق ذلك هضبة الجولان السورية المحتلة على "طبق من ذهب".
ورفض ترامب حكم القانون الدولي باعتبار الاستيطان غير شرعي، بل شجعه وهو الذي التهم من أراضي الضفة ما يكفل منع إقامة دولة فلسطينية مترابطة جغرافيا، وعلى هذا النحو فصل الرئيس السابق والمنتخب لولاية جديدة قوانين على مقاسه من شريعة الغاب.
ويقال إن ترامب خالف بذلك سياسات الإدارات الأمريكية السابقة، لكن أعتقد أنه نفذ ما لم تقله تلك الإدارات ولكنها تريده.
ولهذا فإن قادة المستوطنين الذين تفرض عليهم دول غربية عقوبات خجولة يحتفلون بقدوم ترامب.
هو تكامل أدوار جلي للإدارات الأمريكية الديمقراطية والجمهورية على حد سواء وغايته أن "الإنسانية" في الحالة الفلسطينية لا شيء سوى الدفاع عن الاحتلال.