في غزة يلاحق الاصطفاف في الطوابير المرء كظله في النهار والليل، لا يتركه كابن من أبنائه، يراوده في الأحلام والكوابيس، يأتيه بعلمه أو على حين غرة، يغرقه في متاهات الصبر الطويل، وهو الذي يكاد يفقد أنفاسه.
في زمن حرب الإبادة الجماعية منذ سنة ويزيد، إذا احتاج الغزي دخول دورة المياه في مخيمات النزوح عليه ألا يتوقع التمكن من ذلك فورا، بل ترويض نفسه على وجه جديد للتحمل، لمعرفة عدد النازحين الذي يتخذون أدوارا تسبقه على بابها، وقد يطول الانتظار، وهو ونصيبه!
وإذا كان طفله هو من يقرع الطبول فوق رأسه لدخول دورة المياه فالمصيبة أعظم، ومن ذا الذي يقنعه بما اضطر إليه أبوه من مجاراة قسوة الحياة وضنك العيش؟!
وعندما تزقزق عصافير بطون أطفاله، لا لتناول الدجاج المفقود، ولا الخضار والفواكه المدللة ذات الأثمان الخيالية، بل حفنة من خبز تسد رمق الحياة، فإن أمامه احتمالات لا تخلو أبدا من الطوابير.
أول الاحتمالات أمام هذا النازح قسرا الذي تدلت جيبه الخاوية من بنطاله الممزق، هو الاصطفاف في طوابير كبحر لا ينفد أمام مقرات المؤسسات الدولية أو وكلائها، ليبحث عن اسمه في قوائم منتظري الدقيق الشحيح.
ونجاح هذا الاحتمال بعد ساعات طويلة قد تبدأ صباحا وتستغرق نهارا، ضعيف للغاية في ظل أزمة الدقيق الخانقة التي صنعها الاحتلال وعصابات من اللصوص تحت حمايته.
وثاني الاحتمالات هو اقتراض كيلوجرام واحد أو أقل من الدقيق من أهل الخير، أو إنفاق آخر ما يملك من مال أو الاستدانة لشرائه.
لكن عليه ألا يفرح كثيرا، بل الصبر طويلا، بعد تحضير العجين الذي لا يكفي أسرته أصلا والاستعداد للتضحية بما قد يتبقى من طاقة متناثرة في أنحاء جسده الهزيل المنهك بالتعطيش والتجويع، للاصطفاف في طوابير المنتظرين أمام أفران الطينة، أو المخابز البلدية التي تستبدل الدقيق بالخبز.
ولا ينبغي الظن أن هؤلاء المنتظرين تمكنوا جميعا من إعداد العجين، فالكثيرون منهم يخترعون أطعمة من العدم ويستنجدون بفرن الطينة لإضفاء شكل أو لون ما يساعدهم في تناوله.
وعندما يأتي دوره ويكون في المقدمة فهو يشعر بنشوة الانتصار، كفائز في منافسة محتدمة، لكن سرعان ما تنبهه انحناءة ظهره إلى واقعه المأساوي.
بيد أن الاحتمال الأرجح هو أن يصطف في طوابير البحث عن الدقيق ويفشل في الحصول عليه.
ثم يحين موعد حضور تكية الطعام، وقد يتعارض موعد الاصطفاف في طابورها مع غيره، وعليه أن يختار في أيهما سيتخذ موقعه.
وبعد قليل، عليه عقد العزم على الاصطفاف في طابور جديد، يتزاحم فيه النازحون المغلوب على أمرهم، يتوق كل منهم لشربة ماء لا تروي ظمأهم ولكنها إن حصلوا عليها تبقيهم على قيد الحياة القاسية.
وعندما يتسلل إلى مسمعه أن جهة ما توزع على النازحين مساعدة أو طردا غذائيا أو حتى قطعة بسكويت واحدة -وقد انحدرت احتمالات ذلك مع اشتداد حرب التجويع والتعطيش- فهو أيضا يصطف في طوابير لمعرفة إذا ما كان سيحظى بها أم لا.
ويا لبؤس النازح الذي فقد إخوته أو أنه أصلا وحيد لوالديه، أو إن كانت هناك نازحة أرملة أو غير ذلك، فكل منهم سيتنقل بين الطوابير اليومية دون معين، ولا سند كأنما تسدد له اللكمات من وجه لآخر، بلا حول له ولا قوة، لتزيد همه وتنكأ جراحه.
ثم يحاول النوم فيجد نفسه أمام طابور من الأفكار كرياح عاتية لا يجد معها في خيمة النزوح لا مستقرا ولا راحة، وسرعان ما يتنفس الصبح ويعيد مجبرا الكرة فيما يعلم وما لا يعلم من الطوابير، التي تفرض نفسها عليه من حيث لا يدري ولا يحتسب.