يحدث أن يكون كذلك إذا كنتَ غزاوياً، وأخاف أن أسأل تلك المرأة المكلومة كيف طعم أول رغيفِ خبزٍ في فمك بعد موت شقيقك من أجله؟ هل تقيَّأتِ دماً وأنت تمضغينه؟ ذلك الرغيف ليس كبد حمزة، ولكنّه كبد كل غزاويّ مفطور قلبهُ وجائع ومخذول.
العبارة التي كانت تقول ( ما بموت حدا من الجوع) تتقيؤها غزّة، وتصرخ ( بلى يموت الغزاويّ من الجوع، ويموت مقهوراً وهو يبحث عن رغيف خبز).
ولازالت صورة تلك المرأة التي سال دمها فوق الخبز وهي عائدة به إلى أطفالها، تطاردني، وكلّما رأيتُ طفلاً في يده رغيف خبزٍ يقضمه، سارعتُ أن أقول له:” احذر ألا يكون مغموساً بالدم!”، وبينما أفكّر في قسوة أن يكون مرادف الخبز الدم، أفكّر في كلّ من وقف صامتاً أمامَ إبادتنا، لتتجلّى علينا المأساة الأخلاقية الدوليّة في أبشع صورها، وأتساءل هل يشعرون بينما يشربون الماء أنّهم يشربون دمنا؟ نعم لقد قتلونا إلى هذا الحدّ.
سمعتُ إحدى قريباتنا تقول لأمي وهي تبكي، لقد نخّلتُ اليوم كيس طحينٍ مليء بالعفن والدود، وضعتُ عليه القرفة لتذهب رائحته، لكنني لم أستطع تناوله، دعوت الله ( يارب ارزقنا بكيس طحين نظيف)، بينما أسمع دعاءها هذا تذكرت دعاء صديقتي البارحة وهي ذاهبة إلى المشفى تقول (يارب ألاقي سيارة مش كارة).
تتزاحم دعواتنا على باب الله العظيم، ( يارب كيس طحين) ( يارب جالون ماء مفلتر) ( يارب بيت له عليّة لا تسرّب ماء المطر) ( يارب شوية فواكه) ( يارب ما أمرض لانه ما في علاج) ( يارب ما تيجي عاصفة احنا كتير بردانين) ( يارب ظهري مكسور لانه ما في حائط أسنده عليه ) (يارب محدش حاسس فينا).. بينما يدعو الآخرون في دول أخرى( يارب سيارة)، ( يارب بيت أوسع)، (يارب مشروع أكبر).
يبكيني صوت الغزاويّ وهو يقول (يارب رغيف خبز)، لكن يداويني حديث سيدنا موسى عليه السلام حين سئل ( أين نجد الله) فقال: ( عند المنكسرة قلوبهم) وما دعاؤنا إلا دعاء عبد مكسور القلب، لا يُعجز الله أن يطعمنا ويسقينا، ولكننا نشعر الآن بعظمة نعمة الله عزوجل، تلك التي ما كنا لنستشعرها بحقّها بعيداً عن هذه المأساة، نمتنُ لله عز وجل على رشفة ماء وقضمة خبز، ولا أرى هذا إلّا من أعلى مقامات الشكر، لأنّ هنالك ملايين الأشخاص يشربون الماء ويأكلون الخبز وهم لا يدركون عظمة هذه النعمة.
وأدركتُ في هذه الحرب نعمةً عظيمةً جداً وهي ( أن تنام وأنت غير خائف) إنّها من أعظم النعم على الإنسان!، ولا أقصد هنا الخوف من الموت، لأنّ الشهداء لا يتألمون من الموت، ولكنني أقصد به الفقد، أن تخاف على من يحبهم قلبك كلّما وضعت رأسك على الوسادة.
يؤلمك التخلّي عنك وحيداً عارياً تحت كلّ أنواع الأسلحة الحديثة، أنفاسك التي مازالت تتنفسها بين أعمدة البارود، اشتهاؤك لطبق حلويات، ذكرياتك التي غيّب الموت أصحابها، صور هاتفك المحمول، عيون الناس الشاحبة، الخيام البائسة، وأكف النساء المحترقة من الطهي على النار.
وفي غمرة كل هذا الألم، أوجعتني عبارة لرئيس وزراء الاحتلال (نتنياهو) كانت أقسى عليّ من كلّ هذا العذاب في هذا الإبادة التي نعيشها حين قال في إحدى خطاباته الصحفية (إننّا ندافع عن الوطن)، لقد رأيتُ دموعَ شاطئ عكا، ونحيب برتقال يافا، وجروحاً على مآذن الرملة، ولوعةً في صدر عسقلان، ودماً يغلي في عروق الشهداء منذ عام 1948 إلى تاريخ هذا اليوم من ممارسة الكيان الصهيوني التطهير العرقي بحقنا في غزة، وعرفتُ الآن لماذا يصبح ثمن رغيف الخبز دمنا الفلسطينيّ!