كما لو أنَّها نجومًا تتلألأ في الأفق البعيد؛ كانت قوارب الصَّيَّادين تضيء عتمة اللَّيل على بعد أميال من شاطئ غزَّة.
لقد كانت قوارب الصَّيَّادين قادرةً أن تمخر عباب البحر في أسوأ الظُّروف الجوِّيَّة بحثًا عن رزق من كانوا على متنها من صيَّادين.
إلَّا أنَّ غالبيَّة هذه القوارب هي الآن غارقةً في أعماق البحر وقد أطفأت الغارات الجوِّيَّة العنيفة الَّتي تشنُّها مقاتلات جيش الاحتلال أنوارها وجعلتها ساكنةً تمامًا.
وللسَّنة الثَّانية على التَّوالي لحرب الإبادة الإسرائيليَّة، يعاني الصَّيَّادون أوضاعًا كارثيَّةً بعد تدمير معدَّات الصَّيد القديمة والبالية الَّتي يملكها هؤلاء.
على مقربة من ميناء غزَّة، غربًا، لجأ الصَّيَّاد محمَّد صالح إلى استخدام شبَّاك صيد بدائيَّة لصيد كمِّيَّة قليلة من الأسماك الصَّغيرة.
وتعرَّف الشَّبكة الَّتي يملكها كما يقول صالح لـ "فلسطين أون لاين" باسم "الجرَّافة"، وفكرتها قائمةً على أن يحمل شخصان هذه الشَّبكة الكبيرة ليضعاها في المياه على بعد بضعة أمتار من الشَّاطئ، قبل أن يشدَّها كلّ واحد من طرف لسحبها إلى خارج المياه.
يضيف: "نحن وحظُّنا، فإمَّا أن تخرج معها أسماك وإمَّا تعلِّق بها بعض الشَّوائب والنُّفايات".
ويستمرَّ عمل هذا الشَّابِّ ومعه صديقه لساعات طويلة متحمِّلين حرارة وبرودة الأجواء الَّتي يتأثَّر بها قطاع غزَّة حاليًّا، وهو يداوم على ذلك يوميًّا بعدما فقد القارب الَّذي كان يبحر به في عرض بحر غزَّة لصيد الأسماك.
ويردف: "أنَّه لم يعد له مصدر دخل آخر بعدما استهدفت غارةً إسرائيليَّةً ميناءً الصَّيَّادين ودمَّرت قاربه وأغرقته في المياه".
ولسان حال هذا الصَّيَّاد ينطبق تمامًا على غالبيَّة الصَّيَّادين في قطاع غزَّة، إذ إنَّ غالبيَّتهم دمَّر جيش الاحتلال معدَّات الصَّيد الَّتي يملكوها من قوارب وشباك وأدوات أخرى.
من بين هؤلاء محمَّد الهسِّي، والَّذي كان يملك قاربًا يبحر بواسطته لأميال في بحر غزَّة بحثًا عن الأسماك قبل صيدها والعودة بها.
يقول لـ "فلسطين أون لاين": إنَّ أكثر من 10 صيَّادين كانوا يعملون على متن قاربه قبل الحرب، والآن أصبحنا جميعًا بلا عمل. ومنذ بدء (إسرائيل) حربها على غزَّة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2023، تعمُّد جيش الاحتلال استهداف ميناء الصَّيَّادين وقواربهم في حوضه الواسع، وقد ألقت المقاتلات الحربيَّة العديد من القنابل الثَّقيلة ما أدَّى إلى تقسيم رصيف الميناء وفصله عن بعضه.
وبحسب مسؤول لجان الصَّيَّادين زكريَّا بكر، فإنَّ جيش الاحتلال استغلَّ حرب الإبادة للإجهاز تمامًا على قطاع الصَّيد بعد 17 سنة من الحصار البحريِّ الخانق وما رافقه من تداعيات خطيرة على الصَّيَّادين.
وبيَّن بكر لـ "فلسطين أون لاين"، أنَّ جرائم الاحتلال بحقِّ قطاع الصَّيد تتنوَّع بين الحصار البحريِّ والتَّلاعب بالمساحات البحريَّة، وعمليَّات الملاحقة والمطاردة وما ينتج عنها من ارتقاء شهداء واعتقال صيَّادين وتدمير قوارب صيد ومصادرة أخرى، ومنع إدخال معدَّات الصَّيد وقطع غيار للقوارب.
ونبَّه إلى أن جيش الاحتلال دمر 100 قارب صيد كبير من بينها 18 قاربًا تعرف باسم "لنشات الجر"، تمَّ تدميرها بالكامل، وكانت غالبيتها راسية في ميناء غزة.
وأوضح أن نسبة التدمير في إمكانيات قطاع الصيد من معدات وممتلكات للصيادين، بلغت 87 بالمئة.
وشمل التدمير الممنهج أيضًا غرف الصيادين في ميناء غزة وتلك التي كانت تنتشر على طول شاطئ قطاع غزة أيضًا، بحسب بكر.
ولم يكتف جيش الاحتلال بذلك، بل إنه يلاحق الصيادين ممن يقتاتون على الأسماك قرب الشاطئ، والقول لبكر، وقد أدى الاستهداف المتعمد ضدهم إلى استشهاد 35 من أصل قرابة 150 صيادًا قضوا منذ بدء حرب الإبادة يوم 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023.
ويبلغ عدد الصيادين بغزة قرابة 4 آلاف صياد، 80 بالمئة منهم نزحوا إلى محافظات جنوبي القطاع بفعل الحرب، وفقًا لبكر، وهم يعانون أوضاعًا كارثية بعدما فقدوا مصدر دخلهم الوحيد لاسيما أنهم وفقًا لتقارير دولية مصنفون تحت خط الفقر.