تصوّروا، حين يرغب الإنسان وهو بمحض إرادته وبكامل قواه العقلية والنفسية الانتقال لبيتٍ جديد، فإن شعوراً داخلياً يراوده، ويشده للذكريات التي لا تُعد ولا تعود، رغم أن البيت الجديد ربما يكون أفضل، لكن تبقى روح الذكريات تشد روح الانسان لها.
فما بالكم حين يغادر الانسانُ بيتَه رغماَ عنه دون أن تُتاح له فرصة وداعه، أو أخذ متاعه المناسب منه ليعينه على العيش في المكان الجديد؟، وما بالكم لو كان المكان الجديد هو خيمة؟
في حالتنا الفلسطينية وخاصة في غزة، فإن مما نتعرض له في العدوان "الإسرائيلي" هو "النزوح" الإخلاء القسري للبيوت، وهنا أول سؤال يخطر في بال الإنسان بعد قراءة المنشور التحذيري الذي تلقيه طائرات الاحتلال، أين سيذهب وكيف؟ وبعد إيجاد الإجابة عن هذين السؤالين تبدأ رحلة الحيرة، ماذا سيأخذ معه؟ هل سيأخذ الملابس كلها أم نصفها، هل ملابس هذا الفصل فقط، أم ملابس الفصل الحالي والقادم، صيفا أو شتاءً؟ هل سيأخذ أدوات المطبخ؟ على اعتبار أنه لو حدث للبيت مكروه يجد ما يعينه على الحياة بعد الحرب.
وحين يتغلب على الأسئلة ويستقر في المكان الجديد "الخيمة"، تطفو على السطح أسئلة جديدة أهمها، إلى متى سنبقى في الخيمة؟ والإجابة لها ثلاثة وجوه، الأول: إذا انتهت الحرب وبيتك لم يُصب بأذى، فأنت محظوظ، ستترك الخيمة وتعود للبيت، الثاني: إذا انتهت الحرب بتضرر بيتك جزئياً ويصلح للسكن، فأنت نصف محظوظ، والثالث، إذا انتهت الحرب بدمار بيتك، فستصبح الخيمة بيتك الجديد رغماً عنك لفترة لا يعلمها الا الله، ثم أسئلة أخرى من قبيل كيف سأعيش، وهل ما املكه من مال سيكفي فترة النزوح، وهل سأكون في مأمن من القصف وتعدد موجات النزوح؟.
شخصياً، حين بدأت بجمع ما أراه مناسباً لأخذه معي للخيمة اقشعر بدني من المشهد، تذكرت الخطوات التي قطعتها برفقة زوجتي في بناء البيت، والسنوات الطوال التي عشناها به، همسات الأطفال، ضحكاتهم، لعبهم، مشاغباتهم، السهرات العائلية الجميلة، الأماكن التي كان يجلس بها والداي، وكل شيء.
تجهزت لأن يذهب كل شيء لعالم الذكريات، وتساءلتُ "هل يا ترى يا دار تشوفك عيوني؟، وتجولت في بيتي أتلمسُ كل زاوية فيه، ودخلت غرفة الأطفال أتحسس أماكن نومهم، ملابسهم، كتبهم دفاترهم، مكتبتي، غرفة نومي، المطبخ، غرفة الضيوف.
كانت عيناي تذرفا دمعاً حين تستشعر أو تتخيل تلك اللحظات التي سأعود لبيتي وأجده ركاماً، وأن علىّ البدء من جديد، كما باقي آلاف المواطنين.
وحين جاءت الشاحنة لنقل أثاث البيت، وكان الجيران على نفس المنوال، بكينا ونحن نترك منازلنا وحارتنا، ولا ندري أين سنذهب؟ أو هل سنلتقي مرة أخرى؟، ومن سيشارك في جنازة الآخر وينعاه.؟ ومن سيعود لبيته؟
وحينما وصلت لمخيم النازحين أصبحت بلا رغبة مني عضواً في نادي النازحين، حيث انعدام أبسط مقومات الحياة الإنسانية، لكنه القهر الذي نعيشه في ظل انعدام الضمير العالمي.
ما سبق هي كلمات سريعة عن حالةٍ يعيشها كل سكانِ قطاع غزة بلا استثناء، وهي غير كافيةٍ عن التعبيرِ الحقيقي عن كل الحالات، فلكل انسان بغزة حكاية تختلف عن الآخرين.
ولأن المعاناة لم تنته بعد، فهذا هو أول مقال في كتابي الذي سيحمل عنوان" الجروح في رحلة النزوح"، والذي سأتطرق فيه لهموم الانسان الفلسطيني في رحلة النزوح، منذ خروجه من بيته حتى يعود له، إن كان له، ولنا في العمر بقية.