يقول محمود درويش: الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء.
متقدمًا موكبًا جنائزيًا اقتصر على بضعة أفراد، بحث الدكتور حسام أبو صفية عن مكان في ساحة مستشفى كمال عدوان في غزة، ليواري جثمان ابنه إبراهيم الثرى.. حمل الدكتور حسام نعش ابنه الشهيد، تقدم بخطى مترددة، قصد سور المستشفى.. هناك سيكون مرقده الأخير!. قريبًا من العين، قريبًا من القلب.
أمَّ صلاة الجنازة، كبَّر وهو يغالب عبراته، اختنق صوته، وخانته الكلمات.. استسلم للبكاء ثم ما لبث أن تمالك نفسه، كفكفَ دموعه، وأتمَّ الصلاة.. أهال عليه تراب غزة وزهرَ فلسطين، وودَّعه إلى حين.
داخل المستشفى، كان "أبو إلياس" قد ألقى نظرة الوداع الأخيرة على ابنه.. لثمه على خده، احتضنه بحنوٍّ ورفق، وبكاه بحرقة.. خبرُ استشهاد نجله كان صادمًا وصاعقًا. أحس بلوعة حرقت قلبه عندما طرق ملاك الموت بابه من حيث لا يحتسب!. بدا الدكتور حسام أبو صفية وكأنه يكتشف الموت لأول مرة. كان – كدأبه – يتفقد المرضى والمصابين حينما تعرف على ابنه محمولًا على الأكتاف بعد إصابته في غارة إسرائيلية شمالي غزة.
كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد اقتحمت مستشفى كمال عدوان واستباحته مرات عدة منذ بدء معركة طوفان الأقصى؛ حاصرته واعتقلت كوادره، وأحرقت مرافقه، ودمرت مداخله، ومنعت عنه الوقود والدواء.
لم يفتَّ ذلك كله في عضد الدكتور حسام أبو صفية ولا نال من عزيمته.. رفض بإباء التخلي عن مرضاه وترْكهم وحيدين في مواجهة مصير مجهول ومحتل غادر. وظلَّ، رغم كل هذه المثبطات، مصرًّا على مواصلة رسالته الإنسانية حتى بعد أن تحول المستشفى – كما بقية المؤسسات الصحية في قطاع غزة – إلى ما يشبه المقبرة الجماعية.
أطل حسام أبو صفية ابن مخيم جباليا على الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية.. كان الصوت الذي وخزَ ضمير الإنسانية، ونقل للعالم معاناة المرضى وأنين الجرحى، وعرَّى وجه الاحتلال القبيح، وفضح رعونته وانتهاكاته المتكررة للمواثيق الدولية.
لم يكلَّ ابن بلدة "حمامة" المهجَّرة من خدمة أبناء جلدته والتخفيف عنهم، وبذل الجهد لصون حياتهم وستر عوراتهم.. ولم ترهبه تهديدات جيش الاحتلال ولا جبروت جنوده!. يمضي حسام أبو صفية بثبات وبقناعة لا تتزحزح على درب من سبقوه؛ إياد الرنتيسي، عدنان البرش، وآلاف من موظفي الصحة في قطاع غزة، ممن بطش بهم الاحتلال قتلًا واعتقالًا. نذر "أبو إلياس" نفسه لخدمة أهالي غزة والتخفيف عن آلامهم.. يفترش وإياهم الأرض نفسها، ويتقاسم معهم القدر نفسه والمصير نفسه.
الآن، وقد أيقن أن روح ابنه تحلّق فوق المكان، لملم حسام أبو صفية شتات روحه، كوى جراحه، رسم ابتسامة خفيفة على وجهه، وعاد إلى ما كان عليه، طبيبًا يداوي جراح الآخرين!. فمن يداوي جراحه؟
حسام أبو صفية – كما بقية الفلسطينيين – "لديه الكثير من الماضي.. إنما ينقصه غد"!