فلسطين أون لاين

تقرير ناجون يروون أهوال النَّجاة.. 400 يوم وغزَّة في ثالوث الإبادة والمجاعة والمحرقة

...
ناجون يروون أهوال النَّجاة.. 400 يوم وغزَّة في ثالوث الإبادة والمجاعة والمحرقة
غزة/ يحيى اليعقوبي:

 400 يوم مرت والعالم يرى صراخ أطفال غزة وبكاء نسائها، بيوت تتهاوى، وأحياء تمسح، جنازات تشيع على عجل، جثث شهداء في كل مكان، الساحات تحولت لمقابر جماعية، الجوع ينهش بطون الأحياء والكلاب والقطط تنهش جثث شهداء ملقون في الشوارع.

سيدة تحتضن كفن طفلها، وأخرى تبكي على جثمان شقيقها أو والدها، طفل يركض وراء جنازة يبحث عن والده، وأب جمع أشلاء أولاده في كيس صغير، وفرق وشبان يزيلون الركام بأدوات بدائية لانتشال الشهداء وإخراج المصابين، إسعافات وطواقم دفاع مدني تستهدف، ثلاجات الموتى لا تتوقف عن استقبال الشهداء، كلها مشاهد متكررة في حرب الإبادة الجماعية، اختلفت فيها الأسماء وتشابهت القصص وألم الفقد والحزن.

شهداء شهيد
 

على بسطة صغيرة أمام مستشفى ناصر الطبي بمحافظة خان يونس، يبيع  زياد البريم ملابس مستعملة، محاولاً توفير قوت يوم لإعالة أطفاله الأربعة، يعيش حياة مأساوية هي ذاتها التي يعيشها مليونا وثلاثمائة ألف إنسان بين إبادة جماعية وتجويع ومحرقة يومية يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقهم، لا تتوقف فيها غزة عن وداع شهدائها جماعات، الذين بلغت أعدادهم 43 ألفا و552 شهيدا، إضافة لإصابة 100 ألف و2765 مصابا

البريم الذي قطع عدة كيلو مترات قادما من منطقة بني سهيلا شرق محافظة خان يونس، فقد عمله في مجال البناء خلال الحرب، وبات متعطلا عن العمل كحال عشرات الآلاف من العاملين الذين فقدوا وظائفهم ليتضاعف معدل البطالة الذي كان يبلغ قبل الحرب نحو 47%، وزادت نسبتها في صفوف الخريجين والشباب، نتيجة شل وتدمير كل مجالات الحياة.

بتلك الملامح الداكنة من قسوة الحرب ومرارة العيش، يقول البريم لـ "فلسطين أون لاين": "لا يوجد عمل وجئت إلى هنا حتى أبيع الملابس وأوفر مصدر دخل أعيل به أطفالي، فالوضع الذي نعيشه صعب".

نزوح وتشرد 

منذ بداية الحرب نزح البريم نحو 14 مرة جرب حياة التشرد بعيدا عن منزله، حمل شهر ديسمبر/ كانون ثاني 2023 أصعب مرة نزوح تستحضرها ذاكرته: "بدأ القصف الساعة الواحدة فجرا بدون سابق إنذار، وكانت الأحزمة النارية مرعبة ومخيفة ونجونا بأعجوبة. نمنا ليلتين في الشارع ثم انتقلنا إلى مدرسة إيواء".

رغم النزوح المتكرر كان وجود منزله، يهون عليه مرارة التشرد حينما تنسحب قوات الاحتلال من توغلها للمناطق الشرقية، لكن الحال تغير عندما عاد لمنزله قبل شهرين بعد انسحاب قوات الاحتلال، ليجده مدمرا بالكامل وسوي بالأرض، في لحظة أظلمت الدنيا أمامه.

بصوت مغلف بالقهر يعلق: "أصعب ما في الأمر أنني أصلحت المنزل ووضع الأغراض والمقتنيات ونزحت بلا شيء، وعدت لأجد نفسي بلا منزل لتعيدني الحرب لنقطة الصفر"، متكئا على عكاكيز الصبر: "الحمد لله، هذه أرضنا وهذه بلدنا، وقدر الله ما حدث".

1-1732985.webp
 

أدت الحرب إلى مسح آلاف العائلات من السجل المدني، بارتكاب مجازر جماعية بقيت شاهدة على دموية الاحتلال، كمجزرة المستشفى المعمداني التي استشهد فيها 500 نازح جلهم من الأطفال في 17 أكتوبر/ تشرين أول 2023، ومحرقة مستشفى الشفاء التي قتل الاحتلال فيها ما يقارب 400 إنسان خلال أسبوعين دمر خلالها المشفى.

وارتكب مجزرة دموية  بمخيم جباليا وحي الشجاعية واستشهد في كل مجزرة أكثر من 400 شهيد،  ومجزرة شارع اليرموك في 26 من أكتوبر/ تشرين ثاني والتي استشهد خلالها أكثر من 300 مواطن، فضلا عن المجازر التي يرتكبها بحق شمال القطاع منذ أكثر من شهر ونتج عنها 1800 شهيد، أكثرها دموية مجزرة عائلة أبو نصر في مشروع بيت لاهيا واستشهد خلالها أكثر من 130 شهيدا بعد تدمير الاحتلال عمارة سكنية كانت تؤوي 200 نازح.

وفي جنوب القطاع لم تتوقف مجازر الاحتلال الدموية، وكان أبرزها مجزرة المواصي في 13 يوليو/ تموز  الماضي، استشهد خلالها أكثر من 100 شهيد، ومجزرة "رفح" التي ارتكبها الاحتلال في 12 فبراير/ شباط الماضي واستشهد خلالها أكثر من 70 شهيدا.

تشييع لا يتوقف

كانت عقارب الساعة تقف عند الثانية عشرة ظهر 15 فبراير/ شباط 2024، عندما كانت زوجة مصعب أبو زايد تراقبه بنظرات تعجب لحظة رجوعه لبيته بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، رغم أنه خرج للتو للسوق لشراء خبز ولم ينجح في ذلك، ولم يتأخر في الإجابة على نفسه عندما رسمت الابتسامة طريقها في ملامحه محاولا إخفاء حزنه أنه لم يعد بالخبز: "بدي أخد الأولاد على ستهم"، واصطحب طفليه أمير (5 سنوات) وطفلته حور (عامان ونصف).

392.jpg
 

داخل حديقة منزل واسع نزحت إليه العائلة بمخيم النصيرات وبين ظلال الأشجار، اجتمعت الحاجة ابتسام أبو زايد مع نجليها الصحفيين مصعب وأطفاله أمير وحور وزيد وأطفاله محمد وغيث،  وزوجة الأخير ساجدة، وابنتها "آية" (14 عاما)  كان الاجتماع الأول بعد أسبوع من عودتهم من رحلة نزوح استمرت أكثر من شهر ونصف بمحافظة رفح، رأت العائلة ألوانا من المعاناة وهي التي تملك منزلاً واسعا.

بعد نصف ساعة هز دوي انفجار عنيف سماء المخيم، ووصلت ارتداداته لقلب زوجة "مصعب" التي أرسلت أطفالها مع والدهم لزيارة جدتهم، وتوالت هزات الفاجعة والصدمة، مع اتضاح الخبر باستهداف المنزل الذي نزحت إليه العائلة دون سابق إنذار، ونقل الشهداء الذين بلغ عددهم 10 شهداء.

بكلمات يعتصرها الألم تروي زوجة مصعب لـ "فلسطين أون لاين" قائلة "كانوا في لمة أسرية في حديقة منزلهم الواسع، وحدث الانفجار الذي سمعته ولم أتخيل أن يطال الأسرة. جميعهم تعرض لإصابات في الرأس ونتج عنه نزيف داخلي كانت أجسادهم كاملة، لأنهم لم يتواجدوا داخل البيت".

كانت أبو زايد تتعاطف مع عوائل الشهداء ولم تتخيل أن تشرب "من كأس الفقد" يوما ما، لتقف صامتة عند مشهد الوداع بلا ردة فعل، كانت كل دمعة ثقيلة لم تستطع الاقتراب من الجثامين، توقفت أحلامها وأصبح بيتها فارغا، "استمد قوتي من الله وأفضل شيء أهرب إليه لمواساتي هو القرآن الكريم، تشعر أن كل آية تخاطب روحك، أتذكرهم في كل لحظة، جلساتنا معا كعائلة ضحكات أطفالي صوتهم في البيت لا يفارقني" تقول عن حياتها التي تخوض غمارها وحيدة بلا زوجها وأطفالها كحال آلاف النساء مثلها.

جحيم الخيام

ولا تقتصر معاناة أهالي غزة عند ما سبق، فيعيش مئات الآلاف من النازحين حياة صعبة داخل خيام تتحول إلى أفران في الصيف وإلى ثلاجات باردة في الشتاء، لا تقي حر الصيف ولا توفر الدفء، يعيشون فيها بمساحة ضيقة منذ 400 يوم.

في مواصي خان يونس، تعيش عبير مراد وعائلتها داخل خيمة، في منطقة تعاني تكدسا واكتظاظا كبيرا في النازحين وتفتقر للمياه وأدنى مقومات الحياة.

كيف مرت الـ 400 يوم؟ تراه مراد في حديثها لـ "فلسطين أون لاين" سؤالا صعبا يحتاج لسرد مواقف كثيرة وصعبة مرت عليها خلالها، من خوف مستمر فقدت خلالها اثنين من أشقائها واثنين من أعمامها وسبعة من أولادهم وعمتها وأولادها والدة زوجها وأشقائه في قائمة فقد طويلة، وقصف جنوني في كل مكان، تنعدم فيها المناطق الآمنة، حتى منطقة المواصي التي يصنفها الاحتلال "مناطق إنسانية" يتم قصفها بشكل يومي.

رغم حنينها للعودة لمدينة غزة، تقف مراد أمام فصول جديدة من المعاناة في الحياة بالخيام يرافق مع تعيشه من حزن على من فقدته، مع اقتراب فصل الشتاء وحدوث مجاعة بمحافظات جنوب القطاع نتيجة إغلاق المعابر وشح المستلزمات الأساسية، وهي حياة "لا تليق للإنسان، في ظل انعدام الغذاء وارتفاع ثمن المنتجات المعروضة في الأسواق".

202405270359135913.webp
 

بالأمس الموافق 8 نوفمبر/ تشرين ثاني أحيت مراد ذكرى استشهاد شقيقها حمزة الذي لم تودعه، استذكرت فيها اتصالاته المفاجئة لها قبل استشهاده، عندما كان يتصل بها ويطلب منها النزول للخروج برحلة تنزه، ويتشاجران على نوع الأنشودة في سيارته، تفتقد صوته العذب في تلاوة القرآن، وخطواته المسرعة نحو المسجد، رسائله الهاتفية، لليلة سمر واحدة تتقاسم فيها العائلة الحب، وتعلو صوت ضحكاتها في أرجاء البيت.

إضافة لذلك تشتد معاناتها الحياتية داخل خيمتها مع اقتراب فصل الشتاء، والتي غمرتها المياه بعد سقوط أمطار خفيفة تأثر بها قطاع غزة في سبتمبر/ أيلول الماضي، تكشفت معها مأساة كبيرة يعيشها النازحون في الخيام التي لم تصمد أمام الأمطار وزوبعات الرياح التي أدت لتكسر العديد منها، يصاحبه نقص في الأغطية الشتوية، ليجعل أمنيتها أن تعيش الشتاء بعيدا عن الخيام.

يخيم القلق على حديثها قائلة: "طالما أنك في خيمة، فالشتاء يشكل لك هاجسا، مع عدم وجود جدران ليحموك من المياه، ونخشى من الغرق في ظل غلاء الشوادر للحماية من المطر وعدم توفرها، بالتالي نترقب الشتاء بخوف شديد".

الشمال يباد

وإن كانت مراد واحدة من مئات الآلاف الذين يتشاركون في المعاناة في جنوب القطاع، يشتد حال أكثر من 150 ألف مواطن يتواجدون في شمال القطاع والتي تشهد حرب إبادة يشنها الاحتلال على مخيم جباليا وبلدات شمال القطاع منذ 5 أكتوبر/ تشرين أول 2024.

لم ينزح المدهون عن شمال القطاع ولا يزال يتشبث به، يقول لـ "فلسطين أون لاين": "تحول الشمال إلى كومة ركام والموت يفتك بنا، والقصف لا يتوقف، والجوع والعطش يشتدان ومعاناة النزوح والفراق ووداع الأحباب لا ينتهي".

يرسم صورة للوضع من داخل محيطه السكني: "ترى شوارع مدمرة وبنى تحتية جرفت، شهداء في الشوارع، وأسواقا تحولت لمقابر جماعية، جرحى لا يجدون العلاج، أسر بالآلاف جوعى في الشوارع، مراكز إيواء خالية أو مدمرة، لا حياة في الشمال ومن تبقى ينتظر مصيرا مجهولا".

2023_10_18_22_45_50_876.jpg
 

ويعيش المدهون بين خوف يحاصر الأهالي ورعب يرافق القصف الإسرائيلي الجنوني على البيوت والأحياء السكنية، متابعا: "الناس هنا محبطين من الصمت العالمي على إبادة شمال القطاع. نحن نموت فعلا ولا شيء سوى الموت المنتشر تحت ركام المنازل وفي الطرقات".

مع كل مساء، لا يعرف الأهالي، كما يوضح المدهون، طعما للنوم أو الراحة تعتصر قلوبهم ألما، ينقل عن الأهالي: "الجميع يتحسس الأخبار وينتظر الفرج بوقف هذه الحرب وانسحاب الاحتلال من شمال القطاع، من تبقى ينشغل لجلب الطعام والماء وبالأوضاع الإنسانية القاهرة والمميتة".