بعد طرده من جباليا في غزة تحت قصف مكثف، وبعد ساعات من الاستجواب، سلم جنود جيش الاحتلال المواطن الأربعيني سمير عصا متوهجة.ثم أُجبر على النزوح جنوبًا، وتلقى تعليمات بسيطة: أسقط الضوء وسيتم قصفك.
وقال شهود عيان لموقع "موقع ميدل إيست آي" البريطاني، إن هذه ممارسة جديدة تتبعها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة لتحديد مكان الفلسطينيين المهجرين قسراً، حيث يتم استخدام العصي الضوئية، التي كانت مخصصة في الأصل للإشارة في حالات الطوارئ أو الرؤية في الظلام، للإشارة إلى مجموعة الفلسطينيين التي تم استجوابها وإخلائها والتي تتبع أوامر التهجير القسري من شمال غزة.
وتعليقًا على ذلك، حذر خبراء بالقانون الدولي، من أن ذلك يترك الأشخاص الذين لا يحملون العصا عرضة للهجمات الإسرائيلية، حيث يمكن اعتبارهم أهدافًا محتملة.
وسمير، (42 عامًا)، هو واحد من آلاف الأشخاص الذين أجبروا على الخروج من شمال غزة في الأسابيع الأخيرة، منذ أن حاصرت القوات الإسرائيلية المنطقة وشنت هجومًا جديدًا هناك.
اضطر سمير إلى مغادرة جباليا لإنقاذ صديقه الجريح المقعد على كرسي متحرك، وفر من المنطقة الشهر الماضي مع مجموعة من النساء قبل أن يواجه القوات الإسرائيلية في الطريق.
يروي تجربته المروعة: "قالوا لنا: امشِ واحتفظ بالضوء معك ولا ترميه بعيدًا. أسقطه وسنقصفك”. وأثناء التحقيق مع الرجال، أمر الجنود سمير بالتوجه جنوبًا وترك صديقه، وهو الطلب الذي رفض الاستجابة له. وقال إن صديقه تعرض للضرب بعد فترة وجيزة، وعندما حاول سمير الدفاع عنه، تعرض للضرب أيضًا.
بعد ذلك، ذكّر أحد الجنود سمير بأنه كان معتقلًا سابقًا عندما كان في مستشفى العودة في ديسمبر/كانون الأول، وطُلب منه التوجه جنوبًا بعد ذلك. وحذره من أنه إذا تم القبض عليه للمرة الثالثة في شمال غزة، فسوف يتم القبض عليه.
وقال سمير لـ "موقع ميدل إيست آي": "لقد هددوني بالسجن لمجرد وجودي في الشمال، على الرغم من اعترافهم بأنه لا علاقة لي بأي شيء”.
وبعد ساعات طويلة من الانتظار، تم إطلاق سراح سمير حوالي الساعة 11 مساءً مع صديقه وخمسة رجال آخرين وأمروا بالتوجه جنوبًا.
يتذكر قائلاً: “كان الظلام مظلماً، وكان الطريق وعراً للغاية بسبب الركام في كل مكان، واجهت صعوبات كبيرة في دفع صديقي الجالس على الكرسي المتحرك، وعندما وصلت المجموعة إلى منطقة الإدارة المدنية، طلب منهم جنود إسرائيليون، عبر مكبرات الصوت، التوقف وشرح سبب تأخرهم".
قال سمير: "أخبرناهم أن الجيش يحتجزنا"، مردفًا: "واصلنا السير حتى وصلنا إلى مدرسة تابعة للأونروا في شارع صلاح الدين، حيث كان علينا أن ننام حتى الصباح ثم ذهبنا إلى مدينة غزة”.
العصي المتوهجة في الشوارع
وفرضت القوات الإسرائيلية خلال الشهر الماضي حصارًا مشددًا على بلدات شمال قطاع غزة، وتحت غطاء الضربات الجوية المكثفة، بدأوا بعد ذلك في الانتقال من منزل إلى منزل ومن مأوى إلى مأوى، مما أجبر الناس على الخروج تحت تهديد السلاح.
وقد أُجبر ما يقدر بنحو 50,000 شخص على الخروج من مخيم جباليا للاجئين وحده حتى الآن، أما أولئك الذين بقوا فلم يحصلوا على الغذاء أو إمدادات المياه لأكثر من شهر، ولا يمكنهم الحصول على الرعاية الصحية.
وفي ظل هذه الظروف، قرر محمد كريم حمدان مغادرة جباليا غربًا والذهاب إلى بلدة بيت لاهيا المجاورة في أواخر أكتوبر.
وأضاف: "كان الطريق مليئاً بالقذائف والقصف وإطلاق النار. وقال الشاب البالغ من العمر 21 عامًا لموقع ميدل إيست آي: “لقد كان شيئًا لا يصدق وغير إنساني (..) حتى مع وجود الضوء، فقد أرعبونا.” مرت الدبابات بسرعة بالقرب منا وكان من الممكن أن تدهسنا.
وفور وصولهم إلى بيت لاهيا، تبعتهم طائرة بدون طيار إسرائيلية، وبثت تسجيلات تأمرهم بالتحرك جنوبا بدلا من ذلك.
وقال حمدان إنه بعد مرور يوم من تجاهل الناس للرسالة، قصفت القوات الإسرائيلية المنطقة وأسقطت قنابل دخان، مما أسفر عن ارتقاء العديد من الأشخاص، بمن فيهم الأطفال. ومع اضطرار الطواقم الطبية وطواقم الدفاع المدني إلى وقف عملياتها بسبب الهجمات الإسرائيلية المتكررة، اتخذ حمدان وعائلته القرار الصعب بالامتثال لأوامر التهجير.
يقول: “عندما وصلنا إلى مدرسة الكويت (في بيت لاهيا)، طلب الجيش الإسرائيلي من النساء مواصلة المشي بينما دخل الرجال إلى المدرسة. يتذكر حمدان قائلاً: “كانت هناك نساء مسنات على الكراسي المتحركة في الشارع لا يستطعن التحرك لأن الجيش احتجز أبنائهن في المدارس، وتركهم بمفردهم وغير قادرين على الحركة”.
ويضيف: “لقد احتجزونا من الثامنة صباحاً حتى منتصف الليل. بقينا في المدرسة لساعات طويلة دون أن يحرك الجنود ساكنًا. كانوا يراقبوننا طوال اليوم ونحن نقف في الشمس، بلا ماء أو طعام، وفي فترة ما بعد الظهر، بدأوا بأخذنا ووضعنا أمام كاميرات (التعرف على الوجه)، واختيار من يريدون. وقفت أمام الكاميرا، وأخذوني للاستجواب".
واضطر حمدان إلى الانتظار لساعات وهو يرى عشرات الشباب وهم مجردين من ملابسهم ويرتدون ملابس بيضاء قبل أن يقتادهم الجنود إلى أبراج الشيخ زايد، وقال: “كنت أسمعهم وهم يصرخون وهم يتعرضون للتعذيب هناك”.
وبعد منتصف الليل، أمر الجنود حمدان وثلاثة رجال آخرين، من بينهم رجل معاق يستخدم كرسي متحرك، بالتوجه إلى جنوب قطاع غزة. ومثل سمير، تم إعطاؤهم عصا متوهجة.
ويقول، “لقد أعطونا الضوء الأصفر. وهي قطعة بلاستيكية تضيء عند كسرها. يستمر لمدة 12 ساعة فقط ثم ينطفئ. لا يحتوي هذا الضوء على زر تشغيل أو إيقاف؛ وأوضح: “طلبوا منا أن نحملها ونسير جنوبا”.
ويشرح قائلًا: "يتم إعطاء هذا الضوء لكل مجموعة للإشارة إلى (الجنود) الآخرين أو الطائرات بدون طيار بأنه تم استجوابنا وإطلاق سراحنا، حتى لا يتم استهدافنا، ومع ذلك، حتى مع الضوء، أرعبونا. كانت الدبابات تمر بالقرب منا، وكان من الممكن أن تدهسنا لولا أخذ الحيطة والحذر"
وعلى طول الطريق إلى مدينة غزة، رأى حمدان عدة عصي ضوئية على الأرض.
“كانت هناك عصي ضوئية زرقاء وخضراء. ولا أعرف إن كان الجنود قد ألقوا بها أم أن النازحين أسقطوها. لست متأكدًا مما إذا كان الأشخاص الذين استهدفوا قد حملوهم. لقد كان الظلام مظلماً، ولم نتمكن من رؤية أي شيء”.
ورغم أن الجيش الإسرائيلي قال للفلسطينيين الذين يحملون العصي سيحميهم من الهجمات، إلا أن خبراء قانونيين يقولون إن هذا السلوك ينتهك مبدأ أساسيا في القانون الإنساني الدولي، وهو التمييز بين المقاتلين والمدنيين.
وقالت ليما بسطامي، المستشارة القانونية الفلسطينية، لموقع ميدل إيست آي: “بموجب القانون الدولي الإنساني، يجب أن تكون الهجمات موجهة حصريًا إلى المقاتلين، ويجب ألا يتم استهداف المدنيين أبدًا”.
وأضاف بسطامي أن هذه الممارسة تقوض الحماية المقدمة للمدنيين الذين لا يستطيعون الوصول إلى العصي المتوهجة، أو الذين فقدوا عصاهم، أو الذين تعطلت عصيهم، مما جعلهم مكشوفين باعتبارهم “أهدافًا مباشرة وغير قانونية”.
وأضافت أن ذلك يديم أيضًا دائرة الخوف والضعف بين المدنيين.
وتشير المستشارة القانونية، إلى أن تلك الحيلة الدموية توفر لإسرائيل ذريعة لمزيد من الأذى وإصابة المزيد من الأبرياء بينما تدعي كذباً شرعية أفعالها من خلال التأكيد على أنها اتخذت احتياطات هي في الواقع غير كافية بالأساس أو حتى مضللة”.
وفي شمال غزة مازالت جرائم التطهير والإبادة مستمرة، وفي أبرز التطورات أأكّد مدير "مستشفى كمال عدوان" حسام أبو صفية، أن الجرحى يفقدون حياتهم في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة لعدم وجود مستلزمات طبية وأطباء متخصصين، في ظل استمرار قوات الاحتلال عدوانها الواسع على شمال قطاع غزة، وتدمير مقومات الحياة والنجاة للمواطنين الذي يرفضون النزوح ومغادرة أراضيهم ومنازلهم، لليوم الـ 35على التوالي.
وقال أبو صفية في مقطع مصور نشرته وزارة الصحة بغزة: "الوضع كارثي شمال غزة، الحصار مستمر، ومع كل يوم يتزايد عدد الجرحى الذين يتحولون إلى شهداء بسبب نقص الإمكانيات، وعدم وجود وفود طبية جراحية متخصصة". وأضاف أن "الحصار (الإسرائيلي) على شمال غزة قاتل، إذ يمنع دخول الماء والطعام والدواء و مساعدات طبية".
وتابع: "المستشفى يقدم خدمات للمصابين بأقل الإمكانيات في ظل اعتقال الجيش الإسرائيلي كوادر طبية متخصصة وشح المستلزمات الصحية".
وفي 5 أكتوبر/تشرين الأول الماضي بدأ الجيش الإسرائيلي اجتياحا بريا في شمال قطاع غزة؛ بذريعة "منع حركة حماس من استعادة قوتها في المنطقة"، بينما ترغب "إسرائيل" في احتلال شمال القطاع وتحويله إلى منطقة عازلة بعد تهجير سكانه، تحت وطأة قصف دموي متواصل وحصار مشدد يمنع إدخال الغذاء والماء والأدوية.
وبدعم أمريكي ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023 إبادة جماعية بغزة، خلفت نحو 146 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة حصدت أرواح عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.
وتواصل إسرائيل مجازرها متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بإنهائها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني الكارثي بغزة.