يضطر يحيى المدهون للسير لمسافة 500 متر من سوق مشروع بيت لاهيا وصولا لمستشفى كمال عدوان لتعبئة خزانات المياه والعودة بهم سيرا على الأقدام لمنزله مع أخذ بعض الاستراحات أثناء الرجوع، يخاطر يوميًا هو والآلاف لجلب المياه، يسير بين قبور جماعية لشهداء دفنوا في الشوارع والأسواق، وبين بيوت مهدمة، تحت مرمى الطائرات، يتشبثون في الحياة حتى آخر رمق.
في مسير المدهون الطويل يمر على قبور شهداء كانوا يسيرون مثله قبل أيام، لكنهم تعرضوا للقصف إما في منازلهم أو خلال سيرهم في الطرقات أو في طريق نزوحهم، ودفنوا في الطرقات التي بقيت شاهدة على مجازر الاحتلال الدموية، يسير بين دمار لم يتخيل حدوثه في يوم من الأيام.
بعد أكثر من شهر على عدوان الاحتلال الثالث على شمالي قطاع غزة منذ 5 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، يعيش المدهون كغيره من الأهالي حالة من الترقب والقلق والتعب والإرهاق في ظل شح المياه ومنع إدخال الطعام، تلاحقهم الصواريخ والقذائف أينما حلوا وارتحلوا، كأنها معركة "بين الحياة والموت" تجري هناك، يلاحق أي معالم متبقية للحياة.
كان المدهون شاهدا مجزرة عائلة أبو نصر التي استشهد فيها أكثر من 125 شهيدا بعد قصف منزل من ستة طوابق، على مقربة من منزله، شارك في انتشال جثامين الشهداء ونقل المصابين، وتوثيق المجزرة.
يروي لـ "فلسطين أون لاين": "كانت المجزرة من أصعب المشاهد خلال العدوان المتواصل ونحن نرى مشاهد الموت والدم في كل مكان ونشاهد جثامين الشهداء تحت الركام ولا أحد يستطيع أن يفعل لهم شيئا، وكذلك مشهد دفن عشرات الشهداء في حفرة واحدة بسوق مشروع بيت لاهيا".
حصار مطبق
يعاني الأهالي بمحافظة الشمال في حصار مطبق، وقصف مستمر ومجازر لا تتوقف نتج عنه شح كبير في المياه والطعام، يعرض المدهون صورة لتلك المعاناة: "نكافح من أجل جلب قالون مياه صالح للشرب ونقطع مسافة طويلة للحصول عليه وسط القصف والعدوان المستمر، أما مياه الاستخدام المنزلي فهي منقطعة منذ فترة طويلة ونحاول توفير القليل منها من خلال التوجه لمستشفى كمال عدوان أو بئر في مدرسة يتم تشغليه بصعوبة بالغة كل فترة طويلة".
عن الطعام، يوضح: "ما تبقى من الطعام مخزن قليل من المعلبات وتقريبا نفدت الكمية وهناك القليل من الخضراوات التي تأتي من بيت لاهيا لكنها قليلة وباهظة الثمن ونأكل القليل ونكتفي بوجبة واحدة في اليوم ".
وأضاف "بشكل عام هناك معاناة كبيرة في الحصول على الطعام من تواصل النزوح والتشرد من مكان لآخر في الشمال وعدم دخول المساعدات منذ شهرين يسبب مجاعة فالناس هناك تموت بالجوع والقصف والخوف وكل حياتنا مهددة في كل لحظة".
يشتد القصف خاصة مع ساعات الليل وتتفاقم معاناة الأهالي شمال القطاع وتتوسع دائرة الخطر بحيث لا مكن آمن، "فالتوغل البري مستمر والقصف الجوي والمدفعي لا ينقطع وهذا يعرض حياتنا للخطر نتيجة وصول الشظايا داخل منزلي وقصف في محيط المنطقة التي أسكن فيها فلا نعرف طعما للنوم ولا الراحة". ينقل صورة أخرى من المشهد
ويردف بقهر "نتابع بألم وحزن تفاصيل الأوضاع القاسية، تحولت حياتنا إلى جحيم وننتظر ونترقب ونتحرك في ظل خطورة وتهديد مسترم على حياتنا".
حكم بالموت
بجانب الحصار والقتل، أصبحت الإصابة في شمال القطاع حكمًا في الموت، فلا يوجد سيارة إسعاف واحدة تذهب لنقل المصابين، وكذلك قصف الطوابق العلوية من مستشفى كمال عدوان واعتقال الكوادر الطبية، مع بقاء طبيبين يعملان داخل المشفى إضافة لعدد قليل من طواقم التمريض فاقم الوضع. حسب إفادة مدير المستشفى د. حسام أبو صفية.
وقال أبو صفية لـ "فلسطين أون لاين": "للأسف فقدنا عددا من الجرحى لعدم وجود تخصصات جراحية لأن أغلب الحالات تأتي مشيا على الأقدام وتحتاج تدخلا جراحيا؛ وبعد اعتقال الطواقم لم يسمح جيش الاحتلال بإدخال طواقم جراحية"، مشيرا إلى أنه لا يوجد مركبة اسعاف واحدة في شمال القطاع مما يجعل الأوضاع كارثية.
وأوضح أن الكثير من المصابين يموتون في الشوارع لعدم مقدرتهم على الوصول إلى المشفى، واصفًا الوضع بـ "الخطير"، بعد قصف الطوابق العلوية من مباني كمال عدوان أمس وأول أمس بشكل مباشر وعشوائي وأصيب أطفال منومين وطواقم كانت تقدم الخدمة في المكان.
قبل أيام لم تكن إصابة الشاب مجدي مهدي خطيرة، بعد إصابة تعرض لها بمشروع بيت لاهيا، إثر نزوحه من بلدة بيت حانون إلى المشروع، وأصيب بشظايا في منطقة البطن بعد قصف جيش الاحتلال تجمعا للمواطنين في سوق مشروع بيت لاهيا، أدت الغارة لاستشهاد ثمانية مواطنين على الفور.
لم يجد المواطنون سيارة إسعاف لنقله، ولا أي وسيلة يمكن من خلالها نقله إلى المشفى، تدهورت حالته غير المميتة مع استمرار النزيف وعدم استطاعتهم وقفه والتعامل معه، فتناوب مجموعة من الشباب على حمله والسير به محمولا على الاكتاف.
تروي خالته أم هاني لموقع "فلسطين أون لاين" قائلة: "وصل لأقرب نقطة طبية بجوار مكان الاستهداف، لكن لم يتوفر فيها المستلزمات المطلوبة لإجراء اسعافات أولية أو وقف نزيف".
في رحلة معاناة الشاب لوقف النزيف، نقل بعربة يجرها حيوان وهو ومجموعة من الجرحى لمستشفى كمال عدوان، تستحضر المشهد الذي عاشته: "وصلنا قسم الاستقبال وافترش الأرض، كان يشعر بوجع شديد في البطن كان يقو لي وهو يمسك يدي: "خليك معي أنا بتوجع كتير" بعدها استشهد نتيجة وجود نزيف داخلي لم يتم إيقافه".
لم تكن حالة مهدي الوحيدة التي ظلت تنزف حتى الاستشهاد، بل إن معظم حالات الإصابة أصبح مصيرها الاستشهاد كما حدث في مجازر عديدة ارتفعت حصيلة شهدائها رغم وجود إصابات عديدة، وكما حدث في مجزرة عائلة أبو نصر الذي كان يؤوي نحو 200 نازح أعلن عن استشهاد أكثر من 126 مواطنا ونجى عدد قليل من النازحين والباقي بقي مفقودا تحت الركام.
الضغط بالمجازر
بعد نزوح أهالي مخيم جباليا الذين يرفضون النزوح إلى منطقة المشروع في بيت لاهيا، بدأ الاحتلال يكثف هجومه وقصفه على المنطقة محاولا إجبار الأهالي على النزوح القسري يتخلله مجازر لا تتوقف لبث الرعب في نفوسه.
تقول رانيا أبو حميدة التي تتواجد مع عائلتها في منطقة المنشية ببيت لاهيا: "نعيش في ظروف صعبة، نزحنا من منطقة إلى أخرى داخل بيت لاهيا، لكن المجازر تحدث حولنا في كل مكان، لم يعد هناك أكفان ولا أغطية كبديل عنها لدفن الشهداء وتكريمهم، جثث الشهداء ملقاة في كل مكان، والبيت الذي يسقط فوق رؤوس سكانيه يصعب حتى انتشال الشهداء".
بلا طعام وبحقائب يحملها كل واحد في العائلة، هكذا نزحت أبو حميدة، تحاول هي وعائلتها التأقلم مع نمط حياة قاس، بفرض نظام غذائي محدود يعتمد على ما تبقى من مزروعات أقاربهم الذين زرعوا الباذنجان، وإشعال النار من بتكسير الأشجار المثمرة، وإعداد رقائق الخبز من الصاج.
لكن موضوع الطعام ورغم حالة المجاعة التي يشهدها الشمال، ليس كل ما تفكر فيه أبو حميدة: "نحن لا ننام من شدة القصف، بالأمس فجروا روبوتا مفخخا منطقتنا التي تسمى "الميدان" في بيت لاهيا ولم نستطع حتى حصر عدد الشهداء لكثرتهم، منذ شهر أعيش في منطقة لا تتوقف فيها مشاهد التشييع ونقل الشهداء".
أما أبو أحمد أحد السكان الذين نزحوا من مركز إيواء بمخيم جباليا إلى منطقة بيت لاهيا، فيعيش في بيت جزء كبير منه مقصوف، بالأمس وخلال قصف الاحتلال المدفعي ارتطمت قذيفة بالمبنى وتصاعد الدخان بداخله، لم تجد العائلة أي مكان للاحتماء سوى درج المنزل.
بفارغ الصبر انتظر أبو أحمد حلول الصباح للنجاة بأطفاله سيرا على الأقدام باتجاه منطقة "المنشية" في بيت لاهيا والتي يطبق الاحتلال حصاره عليها، مع توغل الاحتلال التي بدت تتجه نحوها بعدما نزح الناس إليها.
يطلق أبو أحمد صرخته في حديثه لـ "فلسطين أون لاين": "نحن يمكن أن نستشهد في أي لحظة، أجبرنا الوضع هنا على عدم التفكير في الطعام، بالكاد نستطيع تناول شيء ما في اليوم يسد رمق جوعنا، من بعض المعلبات المتبقية والتي حملناها خلال النزوح، نرشد الاستهلاك بشكل كبير، ومنذ شهر لم نشرب المياه المحلاة".
يكتسي صوته بالقهر: "رفضت النزوح كغيري من الآلاف وتمسكت بالبقاء، أمام خطة "الجنرالات" نحاول تثبيت الناس وحثهم على الصبر إلا أن نرى ماذا سيحدث لنا".