جثة فتاة يتدلى نصفها العلوي من نافذة بيت نحو الأسفل، أقدام أطفال شهداء عالقة بين طبقة السقف وأرضية الشقة، أشلاء متطايرة على بيوت الجيران، ونساء وأفراد يبكين على ذويهم وأقاربهم، وأفراد ينزلون الأشلاء بواسطة حبال من أبنية مجاور لمنزل عائلة أبو نصر في مشروع بيت لاهيا شمال قطا ع غزة والذي شهد واحدة من أبشع جرائم الاحتلال دموية صبيحة الثلاثاء الموافق 29 أكتوبر/ تشرين أول 2024.
بأدوات بسيطة ومعاول يدوية، حاول الجيران انتشال الشهداء في مذبحة ارتكبها الاحتلال بقصف عمارة سكنية تعود لعائلة أبو النصر مكونة من خمسة طوابق، ويتواجد فيها أكثر من 200 مدني استشهد منهم 93 بينهم أكثر من 25 طفلا وثمة أكثر من 40 مفقودا وعشرات الإصابات، كان مبرر الاحتلال باستهدافهم "أنهم يتواجدون في البيت" حسب ما نشرته وسائل إعلام عبرية، كرسالة للمواطنين أن أي بيت تنبعث فيه الحياة فهو معرض للاستهداف.
تحت القصف المتواصل من الطائرات والدبابات والمدفعية والطيران المسيرّ نزح أهالي مخيم جباليا ومنطقة تل الزعتر إلى منطقة مشروع بيت لاهيا التي باتت تشكل "الملاذ الأخير" لنحو 150 ألف مواطن يرفضون النزوح من شمال القطاع، ويتشبثون بالأرض، رغم الجوع وشح المياه، إلا أن الاحتلال يواصل ارتكاب المجازر اليومية فيها لدفعهم نحو النزوح لمدينة غزة، في عملية تطهير عرقي تتم على مرأى ومسمع من العالم.
نفاد الأكفان
"أبادونا، ايش بستنى العالم!؟" هذه صرخة سيدة جلست أمام جثث أبنائها وبناتها وأحفادها من عائلة أبو نصر تلطم مصابها الجلل، تحتار على أي جثمان تسقط دموعها وعلى من تبدأ مراسم الوداع، ومن تودع أولا، وأي أشلاء تبحث عنها، وكان الجيران يضيفون جثة جديدة كل دقائق إلى جانب تلك الجثث التي كفنت بالأغطية بعد نفاد الأكفان، ودفنوا في سوق مشروع بيت لاهيا، لعدم تمكنهم من الوصول للمقابر خوفا من تعرضهم للاستهداف.
يروي أبو محمد أبو نصر الناجي الوحيد من المجزرة ما جرى قائلا: "الساعة الخامسة من صباح الثلاثاء، قصفوا منزل جيراننا، وأطلقوا النار من الطيران المسيّر، ثم قصفوا منزلنا الذي يؤوي نازحين من مخيم جباليا ومناطق أخرى ببيت لاهيا وكان يوجد به نحو 200 نازح من أطفال ونساء وشيوخ".
تداهم الدموع الرجل الذي فقد معظم عائلته وهو يجلس على السرير الطبي مصابا بكسور عديدة برأسه وقدميه: "استشهدت وزوجتي وأبنائي الأربعة، أما أنا فوجدت نفسي فوق سطح جيراننا من شدة القصف الهمجي".
حدثت المجازر في محيط منزل عائلة الفتاة رانيا أبو حميد، على بعد شارع واحد من مجزرة عائلة أبو نصر، والتي أفاقت بعدها على مجزرة بحق عائلتي المصري واللوح استشهد على إثرها نحو 20 مواطنا في استهداف منزل مجاور لمنزلهم، وقبلها استهداف بيت لعائلة أبو شبق كان يؤوي نازحين من عائلتي سلمان والمصري استشهد فيه نحو 35 مواطنا.
على مدار خمسة أيام، لم ترَ أبو حميدة سوى جثث تنقل حملا على أكتاف الشباب، أو على عربات، لشهداء دفنوا بجانب ركام منازلهم أو في محيطها، تبعث رائحة الموت من كل مكان، ولا يتوقف صوت القصف.
تربط أبو حميدة علاقة صداقة بالشهيدة منى المصري إحدى ضحايا المجازر الثلاث، استشهدت مع أربعة من أولادها، نزحت بهم من منطقة تل الزعتر لبيت أقاربهم معتقدةً أن بيت لاهيا ستكون آمنة، إلا أن الاحتلال لاحقهم هناك وقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، مشيرةً إلى أن زوج صديقتها مغترب في اليونان، وسافر للعمل لأجل توفير مصدر دخل للعائلة.
ترسم أبو حميدة لموقع "فلسطين أون لاين" صورة للحياة من داخل بيت لاهيا المحاصرة: "عشنا في رعب كبير، عند قصف منزل عائلة أبو نصر والذي يبعد عنا مئات الأمتار فقط، ثم مجزرة عائلة أبو شبق، ثم مجزرة عائلة اللوح والمصري، فنتحدث عن أكثر من 150 شهيدا في أقل من خمسة أيام بنفس منطقتنا".
تضيف: "في مجزرة عائلة أبو شبق والتي وقعت الساعة الحادية عشرة ليلا، حاول الشبان انتشال المصابين لكن الطائرات المسيّرة أطلقت الرصاص عليهم، أدى إلى تراجعهم ثم عادوا لانتشال الشهداء واسعاف المصابين، واستخدام أدوات زراعية وبدائية وكانوا يزيلون الركام على العتمة خوفا من استهداف طائرات الاحتلال لهم".
بنفس اللحظة التي وقعت فيها المجزرة، توقف قلب جدتها البالغة من العمر 100 عام، والتي عانت من عدم توفر أدوية ارتفاع ضغط الدم وحق الأنسولين لمرض السكر، إضافة لهلعها وخوفا من القصف، لتكون العائلة بين نارين بمجزرة الاحتلال لبيوت جيرانهم، ووفاة جدتها التي دفنت في أرضهم الزراعية".
تصف الحياة داخل بيت لاهيا بـ "الكارثية" تتنقل خلالها من بيت إلى آخر، وتلاحقهم أوامر الإخلاء، فصباح اليوم أفاقت العائلة على نداءات قادمة من طائرات كواد كابتر تطلب منهم التوجه إلى شارع المستشفى الإندونيسي، إلا أن أبو حميدة وعائلتها نزحت لطريق آخر، يحمل كل واحد منهم حقيبة صغيرة، ويتنقلون بين شوارع فرعية وممرات
ةالبيوت، بلا طعام أو شراب، واستقروا في أحد بيوت الأقارب، يتشبثون في أرضهم وبيوتهم ويرفضون مغادرتها.
تقول: "عشنا ليلة صعبة، وما أن أشرقت الشمس، حمل كل واحد فينا حقيبته ونزحنا من المنزل خوفا من تكرار المجازر التي ارتكبها بالعائلات المجاورة لنا".
جوع وتشرد
وحصر الاحتلال الأهالي في منطقة المنشية ببيت لاهيا، ويعيشون بلا مقومات حياة، فأبو حميدة لم تشرب المياه المحلاة منذ أكثر 23 يوما، تعيش في تشرد وجوع، مشيرة، إلى أن الأهالي يأكلون من بقايا المزروعات خاصة أن المزارعين نجحوا بزراعة الباذنجان في بيت لاهيا، والتي يعتمد عليها المواطنون في طعامهم ويذهبون لتلك الأراضي بمخاطرة كبيرة.
ومما يفاقم الأوضاع الصحية في شمال القطاع قصف الاحتلال الطابق الثالث في مستشفى كمال عدوان، الذي يحتوي على ما تبقى من أدوية ومستهلكات طبية، ما ألحق بها أضراراً كبيرة".
أما صابر أبو الكأس والذي عاش تجربة مختلفة، فيروي: "عشنا يومين حتى انهالت القذائف علينا من جديد، مصحوبة بمنشورات جديدة وللمرة الثالثة بإجبارنا على النزوح القسري، أمهلت نفسي مدة إضافية أخرى، فوالدتي ليست حمل النزوح المتكرر والمتسارع كونها مقعدة، وأطفالي صغار ليس بوسعهم السير لمسافات طويلة، فقد نزحوا مرات ومرات وذاقوا قبل ذلك الويلات".
يقول: "انتظرت نقطة الصفر، وكانت في إحراق المنزل الملاصق بقذائف المدفعية وسقوط القذائف على البيت الذي يأوينا، وزاد الأمر تعقيداً مرور المصابين بجوار البيت وتناثر الأشلاء أمامنا أثناء نزوح العائلات من مدرسة مجاورة".
اتخذ قراره بالنزوح نحو شارع صلاح الدين، وكان همه الأكبر في دفع والدته على كرسيها المتحرك هذه الكيلومترات الطويلة في شوارع ليس بشوارع بل أزقة ومنخفضات مليئة بالرمال والحجارة.
ويكمل: "عندما وصلنا إلى الحاجز أخبرت الجيش بأنه: ليس لأمي أحد سواي، فأنا الذي أرعاها ولا أستطيع تركها وحدها، حتى يسمح لي بالمرور معها، لكنه رفض، وعند الطلب المتكرر رفع سلاحه في وجهي وصرخ: هترجع ولا أطخك؟"، وبقيت أنتظر بالدور حتى سمح لي بإيصالها لمسافة 20 مترا".
وفي هذه النقطة قرر عدم الانصياع، مرددا "يارب يارب"، مع أصوات من الخلف يصدرها الجندي تطالبه بالعودة، واستمر بالسير المؤلم، "وفي طريق سيرنا في كل ٢٠٠ متر دبابة تبدأ بالتحرك والتفريك باعثة الغبار والدخان الذي سبب لنا الالتهابات والأوجاع" يختم.