(1)
قلة هم "العقلاء" في كيان العدو الذي لم يعد صهيونيًا كما يبدو، بعد أن اشتدت قبضة معتمري القبعة الصغيرة على مفاصل صنع القرار، أو كادت. (إسرائيل)، بمعنى أو بآخر، هي إمبراطورية من نوع ما، "دولة" صغيرة نسبيا من حيث الحجم، لكن لها وزن إمبراطورية، لجهة قدرتها على التحكّم في كثير مما يجري في هذا العالم، والإمبراطوريات لا تتفكك بفعل عوامل خارجية، بل تأكلها الصراعات الداخلية، فتذوي تدريجيا إلى أن تموت.
قام الحلم الصهيوني على أساس دولة قومية لليهود بلا عرب، لكن وثيقة "الاستقلال"، ولأسباب دولية حين أعلنت، اشتملت "نظريا" على بند يراعي حقوق "غير اليهود".
عمليا، كان التطبيق مختلفا، فمن بقي من العرب في فلسطين، بعد إعلان قيام (إسرائيل)، ذاق الأمرين ولم يزل. وحين "توحدت" فلسطين بعد حرب الأيام الستة تحت الاحتلال، امتدت سياسات التمييز العنصري إلى العرب الذين أضيفوا إلى "الدولة" بصفة شعب تحت الاحتلال، بلا جنسياتٍ ولا حقوق مدنية، فهم "مواطنون" في بلادهم شأنهم شأن من يسمون "عرب إسرائيل"، ولكن من درجة عاشرة، لا ثانية ولا ثالثة ولا رابعة. وعلى مدار خمسين عاما، بقي "المواطنون" وسُلبوا كل حقوق المواطنة، والمشروع الذي ولد ميتا أصلا، وهو حل الدولتين، انتهى تماما، أو كاد. وهكذا تحولت "الدولة القومية للشعب اليهودي" إلى دولة ثنائية القومية، قسرا وجبرا. ولكن مع نظام أبارتهايد، وقوانين عنصرية واستيطان متوحش، ترك "سكان البلاد الأصليين" مجرد ضيوفٍ طارئين في بلادهم.
(2)
وسط هذا المشهد المعقد، ذوى اليسار الصهيوني الذي يعتبر نفسه حارسا لحلم "الآباء المؤسّسين" الذين هم، في غالبيتهم، من العلمانيين الذين لا يؤمنون بنصوص التوراة، وينظرون إلى "الدين" اليهودي باعتباره "قومية" جامعة، لا تلزمهم في يوميات حياتهم بأي التزامات "دينية"، إلا ما يتعلق ببعض الطقوس التي لها طابع قومي، لا ديني. وشيئا فشيئا، صعد نجم معتمري القبعة الصغيرة، وهؤلاء بينهم وبين الصهيونية تناقض كبير، فهم متدينون، يؤمنون بالتلمود والتوراة والشريعة، أكثر من قوانين الكنيست، بل إنهم يقودون اليوم حملةَ ضارية لقوننة التوراة، وتأسيس "دولة الشريعة"، غير مهتمين لوجود ملايين العرب (غالبيتهم مسلمون) على أرض الحلم التوراتي، المناقض للحلم الصهيوني. وحدهم فئة صغيرة من "العقلاء" يحاولون بيأس حرف القطار المتدين المتجه إلى الحائط بسرعة فضائية، لإنقاذ الحلم الصهيوني. ومن هؤلاء، وهم قلة قليلة فعلا، الشاعر الصهيوني بي ميخائيل، الذي أطلق صرخة في واد غير صدى، في هآرتس يوم 1/6/2016 بعنوان "العالم يصمت"، وحينها طلب من العالم كله أن يترجم مقالته إلى كل لغات العالم، وأن ترسل إلى زعماء العالم جميعا، قبل فوات الأوان.
الصرخة التي لم يكد يسمعها أحد، تعبير حقيقي عن مدى المأزق الذي يعيشه كيان العدو، والخطر الذي يهدّده، ليس من أعدائه الخارجيين، بل من داخله.
يقول ميخائيل: مرة أخرى، يتعرض الشعب اليهودي إلى خطر كبير. ليس كل الشعب، بل قسم منه. ذلك القسم الموجود في شرق البحر المتوسط. وهذه المرّة لم يقم علينا الغرباء من أجل قتلنا. هذه المرّة، جاءوا من داخلنا. فبأيدينا قمنا بتنصيب من يسيطرون علينا، جماعة لا فائدة منها، ولا حدود لأفعالها، وهي تجر القطيع مباشرة نحو الحائط. والعالم يصمت. لقد وضعنا على رأسنا شخصًا يسعى إلى الرفاه. شخصا اعتبره صديقه، منذ الطفولة، كاذبا ومخادعا. يخشى من ظله، لا سيما من والده المتوفى وزوجته التي على قيد الحياة. أنزل علينا هذا الشخص حكومة عقارب، وضارّين، نصفها ضارون ونصفها عقارب. مع وزير دفاع يؤيد بشكل كبير التطهير العرقي، مع وزيرةٍ للعدل تعتبر القانون هراوةً لتصفية الحسابات القومية والسياسية، مع وزير للتربية والتعليم أصولي، يريد إعادتنا ألف سنة إلى الوراء، إلى السنوات الجميلة لـ"يهوشع" مُدمر الشعوب، وإلى عهد الهيكل، حيث يتم تكريم الله بقطع اللحم المشوي، والملوك الذين يسعون إلى الانتقام والبذخ، والذين هم على قناعةٍ بأن الله قد نصبهم في المملكة الأبدية.. إلى أن يتساءل ميخائيل: هل من الغريب أن العفن والفساد يأكلاننا، والعالم يصمت؟ ثم يصرخ قائلا: العالم يواصل الصمت. وكأنه لم يتعلم أي شيء، ولم ينس أي شيء. يترك يهود الشرق الأوسط لحالهم، ليفعلوا بأنفسهم ما يخطر ببالهم. كان يمكنه بسهولة إنقاذنا. طلب تأشيرة الدخول إلى كل العالم، رمز رفيع المستوى عن تقليص الدعم، هنا وهناك فيتو صغير، أفعال مثل الأفعال التي أعادت جنوب أفريقيا إلى رشدها… وستكون دولة (إسرائيل) خرجت من الصمت الذي تغرق فيه. ولكن العالم يصمت.
أيها العالم القبيح، تخلّ عن صمتك. فإذا استمر صمتك، أيها العالم غير المبالي، فسيكون ذلك برهانا على أنك "لا سامي" بالفعل، كما قالوا لنا تماما. صحيح أن التجربة تقول إن العالم سيستمر في صمته إلى أن يفوت الأوان، لكن خداع الذات أفضل من اليأس. وإذا قاموا باتهامي بتشويه سمعة البلاد، فسأقول دفاعا عن نفسي: لقد قلت الحقيقة، ما قلته هام للجمهور (حتى لو كان الحديث عن جمهور آخذ في التقلص).
(3)
صرخة ميخائيل، الحريص على تخليص "شعب (إسرائيل)" من شرورهم وانتحارهم الذاتي، لم ولن تجد أحدا يسمعها، أو يتوقف عندها، لكنها تفيد في تشخيص الحال، وتبعث رسالة إلى من يدعم القتلة، ويتبناهم، ويخطب ودهم، لأن مصيره سيكون كمصيرهم، طال الزمان أو قصر. ولنتذكّر، هنا، أن "دولة" لم تبلغ بعد عمر معمر فلسطيني، تصل إلى مثل هذه الحال من الشيخوخة المبكرة، لن يكون لها مستقبل في بلادنا، حتى وإن بدا لكثيرين "جنون" مثل هذا الرأي، و"إسرافه" في التفاؤل.