ما أن أغلقت والدة الطفلة زينة الغول (9 أعوام) المكالمة الهاتفية مع زوجها، وطلب خلالها إحضار وثيقته الشخصية (هوية) لاستلام وجبة "بسكويت"، حتى وجدت طفلتها تقف أمامها، ترتدي ملابس جديدة، وترسم ملامحها سعادة غامرة أنها ستأكل البسكويت بعد حرمان طويل منها، تقول بفرح : "هيني رايحة أجيب البسكوت، عشان ناكل احنا وأخوتي".
من شدة فرحها، وجدت "زينة" المسافة الفاصلة بين منزلها ومدرسة أسماء "ب" بمخيم الشاطئ عصر يوم 27 أكتوبر/ تشرين أول 2024، بعيدة رغم أنها لا تبعد سوى عشرات الأمتار، فركبت دراجة شقيقها الهوائية وانطلقت مسرعة بها نحو والدها، وكأنها في مضمار سباق لا تعرف ماذا ينتظرها في نهايته.
عند وصولها لوالدها، وقع دوي انفجار استهدف مدرسة أسماء التي لا تبعد عن مكان وقوفهم سوى عدة أمتار، وأسفر عن استشهاد خمسة صحفيين وصلت إحدى شظاياه إلى قلب زينة التي سقطت على الفور عن دراجتها على الأرض مخضبة بدمائها في مشهد شاهده والدها الذي أصيب هو الآخر بعدة شظايا.
دراجة فارغة
كان قلب أمها يشعرها بأن شيئًا حدث لطفلتها لحظة دوي صوت الانفجار الكبير في المنطقة، "نزلت من البيت وبحثت عنها بين صفوف المصابين ولم أجدها، تذكرت كلماتها التي قالتها لصديقاتها قبل رحيلها بساعات: "لمن أستشهد وأروح عند ربنا، بدي أحكيله يوقف الحرب"، وكيف كانت تخشى من صوت الصواريخ وتأتي للبيت وتختبئ في حضني أو حضن والدها" بقلب يغلي بجمرات الحزن تروي أمها لـ "فلسطين أون لاين".
غادرت "زينة" منزلها على دراجة هوائية لإحضار وجبة "بسكويت"، ووصلت إلى والدها الذي كان قد جلب ربطة خبز بعد ساعات من اصطفافه أمام أحد المخابز، فكانت لقمة مغمسة بدمائها، حينما سقطت على الأرض واستشهدت وسقط والدها مصابًا، لتعود منزلها بعد ساعة يلفها الكفن وتُحمل الطفلة على أكتاف الرجال شهيدة.
على مدخل منزلها، اصطفت صديقاتها اللواتي صعدن إلى الدرج نفسه في ذكرى ميلاد "زينة" الموافق 14 أكتوبر/ تشرين أول، تحمل كل واحدة هدايا اشترينها من مصروفهن، ليرسمن الفرح على وجه "زينة".
لتقف الصديقات في مشهد وداعٍ يرزفن دموع الفراق، كأحد مشاهد "الإبادة الجماعية" التي أثقلت قلوب الأطفال وهم يجبرن على عيش حياة قاسية ومراسم وداع وأكفان ودماء وهم لم يعيشن طفولتهم بعد، كما سرقت الحرب أرواح الآلاف منهم، يقتلهم الاحتلال بلا ذنب، أو سبب، في الطرقات أو في مراكز الإيواء في بيوتهم أو بالمستشفيات، فلا "محرمات أمامه، حتى الأطفال" جملة قالتها أمها بقهر تدفق من قلبها.
لدى زينة ثلاثة أشقاء (فتاتان وولد)، لها حضور مميز في منزلها، وحارتها، متفوقة في دراستها، تقول أمها: "الكل يعرفها ويحبها، حتى أنه عند استشهادها زارني أناس بالمنطقة لا أعرفهم، لكنهم يعرفون طفلتي".
عصر كل يوم، كانت تمارس "زينة" ذات الشعر الأشقر الحريري، طفولتها رغمًا عن "أنف الحرب"، فتلهو في حذاء رياضي ذو العجلات، وتنافس شقيقها في إظهار ثباتها عليه بعد عدة مرات سقطت الطفلة وهي تحاول التعلم اتقان السير به، أو أثناء لعبها على الدرجات الهوائية، هذا "الحق البسيط في اللعب الذي لم يقبله الاحتلال لزينة فقتلها وهي على دراجتها الهوائية" والكلام لأمها.
يطرق صوت الطفلة ذاكرة أمها "كانت زينة عندما تسقط الصواريخ وأطلب منها الدخول للمنزل خوفا عليهم تقول بصوت تعب من الحرب والجوع والتشرد: "لو استشهدت، بروح عند ربنا .. بلاقي كل شيء انحرمت منه"، فهي كباقي أطفال غزة عاشت في جوع شديد وفترات عصيبة، حرمت من أبسط مقومات الحياة والاحتياجات الأساسية، قطعة البسكويت التي ذهبت لإحضارها لم تأكلها منذ شهر".
يغلف قهر الفقد صوت الأم "كنت دائما أخشى على أولادي، تنقلنا بهم من مكان لآخر حتى نبقيهم على قيد الحياة، على أمل أن يعيشوا حياة أفضل بعدما تتوقف الحرب، لكنها استشهدت في أوج بحثها عن الحياة".
حلم بسيط
في آخر فترة، ورغم صغر سنها دأبت الطفلة على حفظ آيات من القرآن الكريم، وكانت تطلب من أمها أو جدتها التسميع لها، وقراءة الأذكار، وألقت قصيدة أطلت بها من نافذة منزلها المدمرة التي تطل على دمار أكبر بمخيم الشاطئ، وكانت ترتدي كوفية، تتحدث أبياتها عن حجم الدمار والخذلان الذي عاشه أهالي وأطفال قطاع غزة من العالم.
"جسدت طفلتي بتلك القصيدة الواقع المعيشي بغزة، وأحلام الأطفال وكيف كانوا ينتظرون الأقل القليل، وقطعة البسكويت، والتي أصبح الحصول عليها صعبًا بسبب قطع المساعدات" يملأ الحزن قلب الأم، وتتساءل: "كيف يقتل الاحتلال الأطفال المتواجدين بداخل المدرسة وفي الطرقات أمام مرأى ومسمع من العالم؟".
وفي المشفى، لا زال والدها يتلقى العلاج في وضع صحي صعب لا يتوفر فيه أدنى المقومات، فبعدما أصيب بثلاث شظايا بظهره وصدره، تهتك العظم في ذراعه لكنه لم يتعاف من صدمة استشهاد ابنته أمامه، تعلق زوجته: "هذه مأساة أخرى يعيشها المصابون، فهم يموتون وهم ينتظرون دورهم في العلاج، فهو موجود بمستشفى الشفاء التي تعرضت للحرق والموجودين هم ممرضون متطوعون، يعملون بإمكانيات محدودة".
رحلت الطفلة، وتركت خلفها دراجتها الهوائية وبقع دماء شاهدة على حلم طفلة متفوقة كانت تتمنى أن تصبح "طبيبة" في يوم من الأيام، وأن تأكل قطعة "بسكويت" تغير مذاق الحرمان المر الذي أجبرتها الحرب على تناوله، وتركت لأمها ذكريات جميلة، وضحكة لم تفارق وجه الطفلة ولا ذاكرة الأم، ملابسها، وسادتها، وغطائها، ومكان نومها الفارغ، ورفرفتها في داخل البيت، حذائها الرياضي الذي كانت تلهو به.
تعلق على احتفال صديقاتها بيوم ميلادها "كانت مفاجأة جميلة، أسعدت قلب طفلتي، عندما طرقت الأطفال باب البيت، وقدموا لها قالب "كيك" مصنوع من غير حليب أو سكر لأنه غير متوفر في غزة، وحاجيات أخرى اشترتها صديقاتها من مصروفهن، وأسورة صنعتها إحداهن من حبات "الخرز"، ورغم بساطة الشيء إلا أن الفرحة غمرتها لأن هناك من تذكرها في يوم ميلاده".
في رحلة تشرد طويلة، دمر الاحتلال عدة شقق سكنية بمنزل عائلة الطفلة، فنزحت عن مخيم الشاطئ أثناء اجتياح الاحتلال للمخيم وانتقلت تحت ضربات الأحزمة النارية إلى حي الشيخ رضوان، وعندما غادرت مع عائلتها الحي بيوم جرى تدمير المربع السكني الذي تواجدت فيه وكان يمكن أن تكون بين الشهداء هي وكل عائلتها وقتها، وأمضت شهر رمضان بشارع النفق، ثم عادت إلى مخيمها الذي تغير معالمها، ترضى بأنصاف حياة، وأنصاف أحلام، لكن الاحتلال أصر على قتل فرحة الطفلة بقطعة البسكويت.