لم تمارس إسرائيل التعتيم الإعلامي أثناء حروبها بالقدر الذي فعلتْه عقب اندلاع "طوفان الأقصى"، لتخصم جانبًا آخر من رصيدِها الديمقراطي المنقوص، الذي طالما تباهت به من قبل، وعرضته ركيزة أساسية لتحسين صورتها وتسويقها في العالم الغربي على وجه الخصوص؛ لتعوض به تمييزًا طالما مارسته ضد العرب الذين يحملون جنسيتها، وكذلك بعض اليهود الأفارقة، وفصلًا عنصريًا تفرضه في التعامل مع سكان إقليمَي الضفة الغربية وقطاع غزة، الواقعين تحت الاحتلال، والانحراف عن الحقيقة حين ترسم في إعلامها صورة زائفة للعرب.
ففي هذه الحرب حرصت إسرائيل على إخراس الأصوات التي تكشف حقيقة "الإبادة الجماعية" في غزة، فقتلت 175 صحفيًا فلسطينيًا، واعتقلت 32 آخرين، وأغلقت مكاتب عدد من وسائل الإعلام العربية، ومنعت طواقمها من العمل في غزة، ومنها قناة "الميادين" اللبنانية، وقناة "الجزيرة"، ثم أغلقت مكتب الأخيرة في رام الله، ومارست تضييقًا على من تركتهم يعملون كمراسلين حربيين ميدانيين، وفعلت الأمر نفسه حتى مع المحليين الإسرائيليين أنفسهم، سواء الذين يظهرون في قنواتها الفضائية، أو يكتبون مقالات وأعمدة وتقارير وتحليلات في الصحف.
ثم مدت يد الرقابة العسكرية حتى على المواطنين أنفسهم، ممن كانوا يرفعون بهواتفهم الذكية مقاطع على شبكة الإنترنت، يصحبها أحيانًا تعليق أو تعبير صوتي عن أي خسائر تقع داخل إسرائيل جراء صواريخ المقاومة الفلسطينية وحزب الله.
التحول في سياسة الإعلام الإسرائيلي
قبل سنوات، كان الإعلام الإسرائيلي مصدر أخبار حتى للمواطنين العرب أنفسهم، حين يكشف التفاهمات أو الاتفاقيات مع أنظمة حكم عربية، أو الزيارات السرية التي يقوم بها بعض المسؤولين من هذه الدول إلى تل أبيب.
وساعد على هذا وجود معارضة إسرائيلية قوية كان من مصلحتها الحط من صورة الذين يجلسون في مقاعد الحكم، وكذلك تعدد الاتجاهات السياسية، حيث تتوزع وسائل الإعلام على الأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويزيد مستوى الاهتمام بالأخبار الإقليمية والعالمية، ووجود منظومة قوانين تحمي حرية الرأي والتعبير.
ومع اتجاه نظام الحكم في ظل رئاسة بنيامين نتنياهو للوزارة، المتحالف مع اليمين المتطرف، إلى نوع من "الشمولية" الذي يهبط إلى "الاستبداد" أحيانًا، راحت يد السلطة تضيق الخناق على رقبة الإعلام، وتم استبعاد بعض الأصوات المختلفة عنوة، وجذب أخرى إلى دائرة التعبئة والتحشيد التي تدعو إلى التوحد في مواجهة "خطر وجودي" على "دولة إسرائيل" برمتها، فأخذت بمرور الوقت تكتم جانبًا من الحقيقة أو تخفيها أو تلتف عليها، عبر الكذب والتهرب والمخاتلة.
التشديد في الرقابة خلال الحرب الحالية
لا وجه للمقارنة بين تعامل الإعلام الإسرائيلي مع الحرب الراهنة إن قسناه بما كان عليه وقت الحرب على غزة عام 2021 أو على حزب الله عام 2006، فخلال هاتين الحربين كان الإعلام العبري، أو الصادر باللغة الإنجليزية من قلب تل أبيب، مصدر أخبار ومعلومات مهمة ترشح من آن لآخر، ترسم ملامح الموقف، وتفضح تقصير الحكومة، وتمتد لتبين المشكلات التي تصيب العمليات التي يقوم بها الجيش.
في الحرب الحالية، سواء حيال غزة أو لبنان، تم تشديد قبضة الرقابة الحكومية والعسكرية على الإعلام، لتحقيق عدة أهداف، هي:
إخفاء الخسائر العسكرية: تسعى إسرائيل إلى إخفاء الخسائر التي تصيب جيشها، سواء خلال هجومه البري على غزة، ثم تمركزه في محاور داخل القطاع، أو جراء الصواريخ التي أطلقت على الداخل الإسرائيلي من جبهتَي غزة ولبنان. الهدف هو تقليل الانتقادات الداخلية، سواء تجاه الجيش أو الحكومة التي تدير الحرب، خاصة مع استمرارها في العمليات العسكرية رغم الأصوات الداخلية والخارجية التي تحذر من هذا، وتدعو إلى عدم توسيع رقعة المعركة.
الحفاظ على صورة "الجيش الذي لا يُقهر": تحاول إسرائيل إبقاء صورة جيشها تحت اللافتة التي رفعتها طويلًا على أنه "الجيش الذي لا يُقهر"، في عيون المستثمرين فيه والرهانات الغربية عليه، إذ يعد الجيش الإسرائيلي نقطة ارتكاز لدولة تُعد رأس حربة عسكرية وأمنية للمشروع الغربي في الشرق الأوسط.
تقليل الهلع داخل الجبهة الداخلية: يسعى التعتيم الإعلامي إلى الحد من مستوى الهلع في المجتمع الإسرائيلي، الذي يعاني من نزوح المستوطنين من الأماكن الواقعة في مرمى الصواريخ القادمة من غزة أو جنوب لبنان، ما يشكل ضغطًا متزايدًا على الحكومة في تل أبيب.
إخفاء الجرائم المرتكبة ضد المدنيين: تهدف إسرائيل إلى إخفاء أو التقليل من الجرائم التي يرتكبها جيشها في غزة ولبنان، سواء بقتل المدنيين أو تدمير البنى التحتية، بغية تخفيض درجة الانتقادات الدولية، حتى من قبل مناصريها، في ظل الأضرار التي أصابت صورتها أمام الرأي العام العالمي.
حرمان المقاومة من المعلومات: يمنع التعتيم الإعلامي المقاومة من الحصول على معلومات تتعلّق بضعف الجيش الإسرائيلي أو تخبّطه، ما قد يرفع معنويات مقاتليها، ويعزّز ثقة الحواضن الاجتماعية بهم.
إسرائيل والحرب الإعلامية
إن الدول في حالة الحرب لا تترك إعلامها يعمل بحرية تامة، حفاظًا على سرية العمليات العسكرية، وضمان فاعلية الخداع، وإخفاء أنواع الأسلحة المستخدمة في القتال، وقبلها الخطط والأهداف. ولم تكن إسرائيل في حروبها السابقة استثناءً من هذه القاعدة، إذ مارست "تحديد الحقيقة"، لكنها لم تشدد الرقابة من قبل بهذه الصرامة.
فقد كانت تفتح مساحة للتعبير لتحقيق بعض الأهداف، مثل فرض معادلة الردع على الخصوم، وممارسة الحرب النفسية عليهم، وإشراك الداخل في متابعة المعركة، خاصة أن الجيش الإسرائيلي يعتمد كثيرًا على قوة الاحتياط، ويعبِّئ موارد الدولة كاملة حول العسكريين في الحروب.
لكن هذه المرة، فُرض التعتيم الإعلامي الشديد لعاملين أساسيين:
طول أمد الحرب: إسرائيل لم تعتد خوض حروب طويلة، إذ تميل عادة إلى الحروب الخاطفة. لكن هذه المرة، وجدت نفسها في حرب استنزاف طويلة في غزة، وقد يتكرر الأمر في لبنان. هذه الخسائر المستمرة تجعل الحقيقة ضاغطة على أعصاب الجيش والمجتمع الإسرائيلي معًا، وقبلهما حكومة نتنياهو.
قدرة المقاومة على إيذاء إسرائيل: هذه الحرب تميزت بقدرة المقاومة في غزة ولبنان على نقل المعركة إلى داخل إسرائيل نفسها، عبر الصواريخ والمسيرات، ما كسر قاعدة "الحرب خارج الحدود" أو "الحدود الآمنة" التي عاشت تل أبيب في ظلّها لعقود.
لكن هذا التعتيم، وبمفهوم المخالفة، يُظهر صعوبة الحرب التي تخوضها إسرائيل حاليًا، وهي مسألة ليست خافية على المقاومة، ولا المحللين العسكريين والسياسيين، وربما يزاح الستار يومًا عما تم إخفاؤه، حين تضع الحرب أوزارها، ويبدأ الحساب.