أمام حالة من الصدمة والتساؤلات والشكوك المتصاعدة في إسرائيل، قال جيش الاحتلال إنه سيعين لجنة تحقيق بهجوم المسيرة على قاعدة بنيامينا، جنوب حيفا، ليلة أمس، واعداً باستخلاص وتذويت الدروس.
وكانت المسيرة من طراز صياد 107، إيرانية الصنع، قد اخترقت قاعة طعام جنود لواء غولاني وهم يتناولون عشاءهم داخل قاعدة للتدريبات العسكرية داخل مستوطنة بنيامينا، القائمة على أراضي قرية الشونة المهجرة منذ نكبة 1948.
وقع الانفجار دون صافرات إنذار، وأصابت المسيرة 70 جندياً، قتلت أربعة، وأصابت العشرات بجراح متفاوتة، عشر منها إصابات بالغة.
وكانت صور وفيديوهات من مسرح العملية قد كشفت عن حالة ذعر وفوضى أصابت الجنود الذين أخذتهم المسيرة على حين غزة.
الأشد إيلاما
الضربة هي الأشد إيلاماً لـ(إسرائيل) منذ نشوب الحرب، خاصة أنها تصيب لواء غولاني، أحد أقدم وأهم مكونات السلاح البري الإسرائيلي
وطبقاً لشهادات عيان، كانت المسيرة قد أطلقت صاروخاً، قبل انقضاضها منتحرة على القاعدة، لكن الجيش ينفي ذلك، ويقول، في بيانه، إن المنظومات الدفاعية رصدت مسيّرتين من لبنان فأسقطت البحرية، فيما نجحت الثانية بالتهرب جنوباً حتى تفجرت في قاعدة بنيامينا.
في كل الأحوال، يرى خبراء عسكريون في (إسرائيل) أن المنظومات الدفاعية لا تستطيع مواجهة تهديد المسيرات بشكل تام، لكونها صغيرة الحجم، تستطيع التحرك بمرونة وتغيير المسار بشكل حاد بثانية واحدة، علاوة على كونها تحلّق على ارتفاع منخفض، ما يمكّنها من الإفلات من أنظمة الرصد والكشف.
كما يعتقد هؤلاء أن “حزب الله” نجح بالتغرير بالجيش الإسرائيلي من خلال إطلاق صلية صواريخ نحو الشمال بالتزامن، لصرف الأنظار عن المسيّرات، محذرين من نجاحه في اكتشاف الخاصرة الرخوة لدى الجانب الإسرائيلي.
وسبق أن استخدمت روسيا هذا السلاح الصغير الحجم والرخيص والفعال في حربها في أوكرانيا، التي فشلت هي وحليفاتها في مواجهته. اليوم، يبدو أن منظومة الدفاع الجوي الأمريكية المتطورة من طراز “ثاد”، التي ستصل للبلاد، لن تقدّم حلّا للمسيرات.
رسائل متعددة الاتجاهات
وتبدو الضربة الموجعة هي الأشد إيلاماً لـ(إسرائيل) منذ نشوب الحرب، خاصة أنها تصيب لواء غولاني، أحد أقدم وأهم مكونات السلاح البري الإسرائيلي، منذ 1948، وأنها أعقبت عمليات خلال نهار أمس تسببت بإصابة 28 جندياً.
عملية نوعية من ناحية المكان (بعد حيفا)، والزمان (بعد تصاعد التقديرات بأن “حزب الله” معطل ونازف) والنتيجة (عشرات الجنود) حققها “حزب الله”، وتنطوي على أهمية خاصة عسكرياً، معنوياً في ظل “ميزان رعب” نجحت إسرائيل بترجيح كفتها به في الشهر الماضي، بعد سلسلة ضربات واغتيالات في العمق اللبناني. وسائل الإعلام العبرية الرسمية تنشر صوراً وفيديوهات من مسرح العملية بشكل مجتزأ، بعكس ما نشرته منتديات التواصل الاجتماعي التي فضحت حالة فوضى ورعب وفوضى داخل القاعدة العسكرية.
رسائل “حزب الله”
من جانبه، وبصرف النظر عما إذا كان خطّطَ لعملية تؤدي لهذا الضرر، فإن “حزب الله”، الذي أعلن مسؤوليته عن العملية، قد أرسل رسائل سياسية ومعنوية لعدة جماهير هدف بمسيرة واحدة: إلى (إسرائيل)، والعالم، وإلى أتباعه وأنصاره، وللفلسطينيين، والداخل اللبناني، مفادها “نحن هنا”.
لسان حال مثل هذه العملية النادرة يقول إن “حزب الله” يستعيد عافيته، وإن محاولة بناء نظام سياسي جديد في لبنان مجرد تمنٍّ إسرائيلي أمريكي وعربي غير ممكن، مثلما يفجر مزاعم تفكّكه، وهذا بعد ساعات من نشر تقارير وتصريحات إسرائيلية (وردت على لسان غالانت أيضاً) تدّعي أن ثلث صواريخ “حزب الله” فقط بقيت، والبقية لم تعد موجودة.
يشار هنا إلى أن مصادر إسرائيلية أيضاً قد أشارت لما يتعارض مع هذه التقديرات، كما يقول، على سبيل المثال، المحلل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يواف زيتون، اليوم، بعد زيارته المنطقة الحدودية أمس: “شاهدت غابة، أو أدغال الإرهاب في جنوب لبنان. أنفاق وخنادق، كما في فيتنام، وكميات كبيرة من السلاح.. والعتاد على بعد أمتار من الحدود”.
لا حل كامل الأوصاف
ويرى المحلل العسكري في موقع “واينت” رون بن يشاي أن التحقيق سيفحص كل شيء، لكن الواضح أن “حزب الله” نجح في تشويش منظومة الكشف، معتبراً أن المسيّرة صغيرة الحجم “صاروخ باليستي” من الناحية العملية.
ويؤكد بن يشاي أن منظومات الدفاع الإسرائيلية تواجه المسيرات وتنجح في إسقاطها وإبطال مفعولها، كما توضح الأرقام والتجارب في الأسابيع الأخيرة، لكنها لا تقدم حلاً كاملاً بسبب التحليق المنخفض ما يصعب اكتشافها والقدرة على تغيير المسار بشكل حاد، ما يعني عدم القدرة على استشراف مسارها، كما حصل ليلة أمس في بنيامينا.
في المقابل، هناك من يقلل من خطورة المسيّرات، أمثال المحلل العسكري في صحيفة “معاريف” آفي إشكنازي الذي يقول: “كي لا نصاب بالبلبلة: ضربة المسيرة حدث صعب ومقلق ومأساوي، لكن يبقى الحديث عن سلاح نفسي إيراني”.
ويضيف: “سيضطر الجيش لمواجهة صراع غير متماثل، مشكلته المركزية عدم تطويره بعد منظومة إسقاط المسيرات والصواريخ بـ “الليزر”، وما تبقى لنا هو أن نتصرف نحن والجيش بحذر كبير”.
الاتجاه لتسوية
في المنظور الأوسع الذي يأخذ بالحسبان مجمل الجبهات والتهديدات والاحتمالات، هناك من يرى أن حادثة المسيرة تحمل معاني عميقة، منها أن الحرب ستطول، ومنها رسائل حول ما الذي ينبغي أن تفعله إسرائيل الآن لجانب رهانها على القوة فقط.
في حديث للإذاعة العامة، يعتبر النائب المعارض رام بن براك (“هناك مستقبل” برئاسة لبيد)، نائب رئيس الموساد سابقاً، أنه على إسرائيل الاتجاه لتسوية في الشمال مع لبنان، مثلما كان ينبغي أن تفعله مع غزة، لكنها لاعتبارات غريبة لم تفعل ذلك”، محذراً من حرب بلا نهاية.
الارتباط بين غزة ولبنان
وتتقاطع معه الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب أورنا مزراحي، التي تقول للإذاعة ذاتها، اليوم، إن على إسرائيل البحث عن مخارج سياسية بالتعاون مع دول أجنبية.
وبالنسبة لمزراحي، فإن السؤال المركزي: هل نفصل الجبهة الشمالية عن غزة؟
وعن ذلك تضيف: “هناك خلافات في الرأي، فرئيس الموساد، على سبيل المثال، يمانع. أعتقد أنه ينبغي فصل الجبهات. والسؤال كيف، وماذا؟ المستوى السياسي أعلن أن الهدف استعادة النازحين للجليل، ولذا المطلوب عملية رادعة لا احتلال. ما فهمته أن الجيش يحتاج لعدة أسابيع لإنجاز هذه المهمة، ولذا نحن نحتاج الآن للتفكير والاستعداد لنقطة الخروج”.
وترى مزراحي أن التسوية يجب أن تشمل قدرة تطبيق الاتفاق ومنع “حزب الله” للحدود، لأن القوات الأممية عاجزة، مثلما علينا تأمين حرية عمل في كل مرة يتم انتهاك الاتفاق”.
رداً على سؤال حول احتمالات البقاء في حزام أمني، قالت مزراحي منبهة أن بقاء الجيش في جنوب لبنان لتطبيق الاتفاق خيارٌ وارد، لكن له أثماناً”.
حرب لا تنتهي
تحت عنوان “حرب لا تنتهي”، يحذر المحلل العسكري البارز في صحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل أن منظومة النار لدى “حزب الله” بدأت تستيقظ، وتطلق مئات الصواريخ في اليوم على الشمال.
ويمضي في تحذيره من المجهول: “في الجنوب (غزة) يتقدم الجيش دون مقاومة كبيرة حالياً، وللوهلة الأولى هذه ظروف قادرة على تمكين (إسرائيل) من السعي نحو تسوية سياسية، ومحاولة إنهاء الحرب في الشمال خلال أسابيع، لكن أشك أن ذلك سيحدث في أرض الواقع”.
هارئيل سبق أن حذر، منذ عام، أن الحرب ستتصاعد وستطول وتنطوي على خطورة كبيرة، كونها بلا رؤية إستراتيجية، ودون تصور سياسي، ولاختلاط حسابات صنّاع القرار، وعلى رأسهم نتنياهو. الآن يتضح أن التهديد في الشمال كان أشد وأعظم مما حصل في الجنوب.
تهديدات إضافية
في مقاله اليوم، الإثنين، يقول إنه “من المرجح أن يطلب رؤساء الحكم المحلي في الشمال وسكانه من الجيش مواصلة البقاء في الجنوب اللبناني من أجل إزالة تهديدات إضافية. كل هذا يخدم طبعاً تَصوّر الحرب الأبدية لدى نتنياهو”.
ويعلل هارئيل تنبؤه بأن الحرب ستطول على عدة جبهات بالإشارة لثلاثة عوامل: تطبيع الإسرائيليين حالة إطلاق النار على ثلث البلاد، الكشف عن خطورة التهديد في جنوب لبنان، وسلبية الولايات المتحدة.
برأي هارئيل، فإن كل ذلك يصب الماء على طاحونة نتنياهو: “تعمل لصالح تصور الحرب الأبدية”.
وقبيل وقوع عملية بنيامينا، كان المستشرق الإسرائيلي الخبير بالشؤون السورية واللبنانية في جامعة تل أبيب بروفيسور أيال زيسر، قد دعا، في مقال تنشره “معاريف” اليوم، لمهاجمة كل لبنان من أجل الانتصار على “حزب الله”، وهذا ما دعا له جنرالات في الاحتياط، منهم مستشار الأمن القومي السابق غيورا آيلاند، الذي يدعو، في نفس الوقت، لمحاصرة واستهداف المدنيين في غزة كونهم الحاضنة لـ “حماس”.