قائمة الموقع

3 دقائق "حياة".. رَوَت "الروح" فزادتها عطشًا

2017-10-19T06:01:31+03:00
ماهر الشلمون وزوجته بهية

ثلاث دقائق فقط كانت كفيلة بأن تروي ظمأ قلوبهم، وتكحل عيونهم برؤية ملامح وجوه أحبتهم بعيدًا عن "غباشة" الحاجز الزجاجي الذي يقف حائلًا دون ملامسة أيديهم، وسماعهم لصوت دقات قلوبهم، والشعور بحرارة أجسادهم التي تترقب اللقاء في كل مرة، ليرى هو تورد وجنتيها عن قرب، ويشعر بتدفق الدم إلى عروقها وكأنها تعلن عودتها للحياة من جديد، أما هي، فحالها كحال الأرض القاحلة التي ما إن سقطت عليها حبات المطر اهتزت وربت، وعلى جمال اللقاء، إلا أنه زاد الشوق بدلا من إطفاء جذوته..

الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال، المحكوم عليهم بالمؤبدات، حصلوا على فرصة اللقاء وجها لوجه مع زوجاتهم دون حواجز زجاجية ووسائط ناقلة للصوت، ولكن لثلاث دقائق فقط، وهي بالتأكيد لا تكفي لإزالة الشوق، ولا تساوي شيئا أمام الحقوق المسلوبة.. كيف مرّ هذا الوقت القصير في مدته، العظيم في قيمته؟.. "فلسطين" حاورت ثلاث سيدات ممن خضن التجربة..

لقاءٌ صامت

في الدقائق الأخيرة من زيارة "إخلاص" لزوجها الأسير "عباس السيد"، وضعا أيديهما قبالة بعضهما، ولكن يفصل بينهما حاجز زجاجي، كالعادة، إلى أن نادى السجان المُراقب للزيارة بأنه سيفتح الباب، وسيسمح لهما بلقاء مباشر، لمدة ثلاث دقائق، والتقاط صورة سويًا، وهما اللذان لم يكونا على علم بصدور تصريح لزيارة من هذا النوع.

كانت ضيفتنا، قد سمعت قبل شهر، بطلب أسرى المؤبدات من إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية بالسماح لهم بلقاء ذويهم وجها لوجه والتقاط الصور معهم، فأرسلت هي، كباقي زوجات الأسرى، بطاقتها الشخصية للحصول على موافقة لهذه الزيارة، ولنظرًا كونها مرفوضة أمنيًا، فقد وصلها التصريح متأخرًا، أثناء تواجدها في الزيارة التي جاءت بعد منع دام 7 شهور، وقد سبقها منع آخر لمدة خمس سنوات متواصلة.

إنها اللحظة الحاسمة.. فُتح الباب الذي كانت تتمنى كسره في كل زيارة لتعانق زوجها، وأُزيلت كل الحواجز بينهما، وتلك المسافة القصيرة التي عليها مشيها لتصل إليه، شعرت بطولها، وكأنها شيء يقيّد قدميها ويمنعها من المشي، إلى جانب رجفة جسدها، ولمّا وصلت، تسمّرت في مكانها ليبزغ زوجها أمام ناظريها كالقمر، لم تستطع النظر إليه، وكأن غشاوة على عينيها، فها هو يقف أمامها دون حاجز زجاجي، وسيحدثها ليصل الكلام من فمه إلى أذنها مباشرة دون سماعة الهاتف المخصصة لزيارة أهالي الأسرى.

بادر بمعانقتها، بينما هي لا تزال تحت تأثير الصدمة، فهذا هو العناق الأول منذ اعتقاله، قبل 16 عامًا، وتقول: "تلك الدقائق المعدودة لم، ولن، أستطيع ترجمتها بكلمات، فهي مشاعر مختلطة ما بين حب وحنان وشوق، وخوف من الثواني الأخيرة عندما أتركه".

وبقلب يرقص فرحًا، تحاول تمالك نفسها لتكمل حديثها عن تلك الدقائق التي تمنّت أن يقف العمر عندها: "تبادلنا النظرات، وعانقني بشدة، وقبل رأسي ويدي، وقال لي (هانت)، ثم وضع يده على رأسي وبدأ يقرأ عليّ آيات من القرآن، شعرت حينها بهموم تخرج من رأسي تباعًا بكل سهولة بعدما أثقلت كاهلي، واحتلت مكانها مشاعر الراحة والطمأنينة".

وتواصل: "وخلال هذه الدقائق التي لم أسمح لنفسي بالتفكير بكيفية قضائها، أخذت فقط أنظر إليه، إلى أن أخبرني الجنود بأنهم سيلتقطون لنا صورة سويًا، ترددت حينها خشية عدم تمالك نفسي في تلك اللحظة، ولحسن الحظ، انتهى شحن بطارية الكاميرا، ليزيد ذلك من عمر اللقاء دقيقة إضافية".

بعد أن انتهت الدقائق المعدودة، بدأت الهواجس في رأسها، أهو حلم أم حقيقة؟، خرجت من الغرفة ولم تستطع كتمان دموعها التي خانتها أمامه، فاحتضنت رأسها بين يديها ولم تتكمن من إكمال زيارتها عبر الحاجز الزجاجي، وعندما حاورناها في اليوم التالي للقاء، كانت لا تزال تحاول استيعاب ما حدث.

توضح السيد: "رغم أن لهذه الزيارة بعدا إنسانيا كبيرا وجميلا، إلا أنها حركت المشاعر الراكدة، وأيقظتها من سُباتها منذ 16 عامًا من البعد والحرمان".

تفاجأت من رد فعل ابنيها، فعندما أرسلت الصورة لابنها "عبد الله"، المتواجد حاليا في تركيا، لم يستطع أن يعبر عن فرحته بهذا اللقاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أما ابنتها "مودة" فقد ترجمت فرحتها على أرض الواقع بأن أخذت تقفز حاملة الصورة، ومرددة: "ماما وبابا مع بعض"، وأخذت تحضن والدتها وتقبلها، فهي ربما لا تذكرهما معا، إذ اعتقل والدها وهي في الثالثة من عمرها.

إخلاص التي جفاها النوم بعد عودتها من الزيارة، تحاول الآن أن تتذكر تفاصيل اللقاء، وتبين: "بت أحن لوجوده بيننا أكثر من قبل، وأتمنى لو يكون بيننا اليوم قبل غدٍ، فأيقنت أني كالأرض العطشى".

"الجلباب" الذي كانت ترتديه في الزيارة، ترفض غسله حتى الآن، والسبب ببساطة: "عشان ريحة عباس فيه".

ويُذكر أن السيد اعتقل في 2002، وصدر بحقّه حكم بالسجن لـ35 مؤبدًا و50 عامًا.

فقدان للوعي

رعشة جسد، وأنفاسٌ تتسابق، وعرق يتصبب على جبينها، هكذا كان حال "آمنة الحصري" خطيبة الأسير "أحمد الجيوسي"، عندما حظيت بثلاث دقائق من "الحياة"، شعرت خلالها أن روحها رُدّت إليها بعد مرور أكثر من 15 عامًا على اعتقال خطيبها، المحكوم بالسجن لـ35 مؤبدا.

علمت الحصري قبل فترة بشأن الدقائق الثلاث، ولكن إدارة مصلحة السجون رفضت جميع الطلبات التي قدمتها، رغم أنها كانت مترددة بعض الشيء، وكانت تطرح الكثير من الأسئلة، المتعلقة بكيفية مرور هذه الدقائق والمشاعر خلالها، على النساء اللاتي سبقنها بلقاء أزواجهن.

قدم خطيبها طلبا آخر في منتصف شهر أكتوبر، وحصل على الموافقة، معرفتها بالأمر منعتها من النوم، وقضت ليلها بالتفكير، تقول الحصري: "في ليلة الزيارة كنتُ متوترة جدًا، كيف سألتقي بأحمد؟ ماذا سأفعل أثناء الزيارة القصيرة؟ وكيف ستكون مشاعرنا وردود فعلنا؟، وغيرها الكثير من الأسئلة".

في اليوم المُنتَظَر، وبعد انتهاء الزيارة عبر الحاجز الزجاجي وسماعة الهاتف، طلب منهما الجنود البقاء كي يتم تصويرهما، وهنا بدأ قلبها يخفق بسرعة، وشعرت أنها بدأت تفقد تركيزها.

وتوضح: "خشيت أن أفقد وعيي، فلا أريد أن يقلق أحمد علّي، ولا أن تضيع أي ثانية من اللقاء"، مشيرة إلى أنها كانت تراقب ملامح خطيبها في تلك اللحظات، وكان من الواضح لها أنها مختلطة، تتراوح بين التوتر والفرح.

وتبيّن: "أخذوا أحمد إلى غرفة أخرى، شعرت حينها بأن نفسي يتوقف، ثم طلبوا مني القدوم، كنت أعتقد أني بحاجة إلى بعض الوقت لكي أصل له، ولكن ما هي إلا خطوتان، وفجأة رأيته أمام ناظري".

وقف جندي بينهما ليعكر صفو اللقاء، لكن مشاعرهما كانت أقوى، وأخيرا عانقها أحمد بعد غياب زاد عن عقد ونصف.

تتحدث عن لحظات اللقاء بلهفة: "لم نستوعب ما يحدث، ولا كيف أزيلت الحواجز بيننا، حتى عندما قال الجندي (جيوسي يلا عشان تتصوروا) لم نكن مهتمين بالتصوير، ولا بهيئتنا في الصورة، وما إذا كنا سنقف أو نجلس أمام الكاميرا، فكل ما أردناه أن نستفيد من كل ثانية".

وبعد التصوير ودعها أحمدـ أمّا هي فلم تستطع أن تبادله النظرات الأخيرة، أو أن تقول له أي كلمة قبل ذهابه، لم تعد تقوى على الوقوف على قدميها، وفقدت وعيها، فأجلسها على كرسي، وطلب من الجنود كأسًا من الماء، والسماح له بدقائق أخرى معها ليطمئن عليها، ولكن بالتأكد رُفض طلبه، فودّعها من جديد، وأوصى كل منهما الآخر "دير بالك على حالك"، هذا ما استطاعا قوله بعد صمت ساد اللقاء.

أوصلتها المجندة للباب الخارجي، وطلبت من الزوار مساعدتها، ولكنها انهارت مرّة أخرى، وعن ذلك توضح: "بعد عودتي، زاد تعبي ووجعي، وانخرطت في البكاء بطريقة غريبة، أشكو فراقه من جديد، لا أعرف إن كان عليّ أن أفرح أو أحزن".

"حتى اللحظة لا أستطيع تحديد أثر اللقاء، أهو حزن أم فرح، غصة أم أمل، إحياء للذكريات أم تجديد للألم، ولكن الحمد لله أن بعد كل هذه السنين، كُتب لنا أن نكون مع بعض، وأن تجمعنا صورة واحدة"، وفق قولها.

تضيف الحصري: "فرقة أجسادنا وحدت أرواحنا أكثر، ولكن لقاء الجسد كان شيئًا مهما نحتاجه ليعيننا على إكمال مشوارنا".

آمنة وأحمد كانا يعملان معًا في مشغل للخياطة عام 1998، أعجبا ببعضهما، وتقدم لخطبتها، وتم عقد قرانهما في يناير من عام 2001، وتم اعتقاله قبل أسبوع من موعد زفافهما.

كيف أعود للواقع؟

أما بهية النتشة زوجة الأسير ماهر الهشلمون، فتساءلت قبل أن تحظى بلقاء الحبيب "هل يمكن اختزال سنوات طوال في ثلاث دقائق؟"، وبعد اللقاء والصورة التي جمعتها بزوجها، جاءت إجابتها أن "الله قد خطب ودها بصورة".

الباب خلفها لتخرج منه، والسجان أمامها يراقبهما، وهو متجرد من أي مشاعر إنسانية، ومع ذلك شعرت أن الروح رُدّت إليها، على حد وصفها.

قال لها ماهر ممازحًا: "عدلي لي ملابسي لأتصور"، في محاولة منه لأن يعيش اللحظة كما كان واقعهما من قبل، وفق قولها. مضيفة: "ربما نسي، أو بالأحرى تناسى أنه في السجن، وتخيل أننا أمام باب المنزل، وأنه يهمُّ بالخروج إلى مكتبه كعادته وأنا أضبط ملابسه وأوصيه بنفسه خيرًا".

لم يكن لدى النتشة مشاعر قوية تجاه خبر السماح للأسرى بلقاء زوجاتهم دون حواجز، وذلك لسببين، الأول حلمها بأن تلتقي بماهر حرا طليقا، والثاني خوفها من عدم إتمام الأمر، فقررت أن تترك الأمر كما تسيّره الظروف، ومع ذلك فعندما حصلت على الفرصة، كانت كطفل صغير يركض نحو حضن والده ليشعر بالأمان.

تقول: "لم يسعفنا الوقت للحديث، فتركنا الأمر للمشاعر كي تتحدث عن نفسها".

أثناء الدقائق الثلاث، أوشكت أن "تنفجر" باكية، ولكنها قررت أن تستشعر السعادة قدر المستطاع، ثم تملكتها مشاعر مختلطة، تارة تريد البكاء وأخرى ترغب بالضحك، وحاليا تحاول أن تعود للواقع، ولكنها لا تستطيع.

الآن، تطلب النتشة حلّا لما فعله بها اللقاء، فالشوق زاد بدلا من أن يخف: "أخبروني بالله عليكم، كيف أعود لواقع أقنعت نفسي به، فوافقت عليه على مضض؟!".

وتشير إلى أن ما زاد سعادتها باللقاء، هو رد فعل طفليهما، اللذين ارتسمت الفرحة على ملامحهما بعد مشاهدتهما للصور التي تجمع أبويهما.

الهشلمون سيدخل عامه الرابع في الأسر، إذ يقضي حُكمًا يقتضي بالسجن المؤبد مرتين، بتهمة تنفيذ عملية دهس وطعن بحق عدد من المستوطنين في مدينة القدس المحتلة.

اخبار ذات صلة