"الآن أنا نظيف".. "بل أنت نظيفٌ دومًا".. هاتان
العبارتان كانتا حديثًا مختصرًا دار بين الشهيد "إسماعيل شمالي" ووالدته
صبيحة يوم استشهاده، بعد أن أخبرها أنه أنهى كل معاملاته المالية، وأعطاها مبلغًا
من المال لتدخره له من أجل دراسة الدكتوراة، فمناقشة رسالة الماجستير ستكون بعد
أربع وعشرين ساعة.. في السطور التالية نتعرف على تفاصيل أخرى في اليوم ذاته، قبل
أن ينهار النفق على شمالي فيستشهد هو وصديقه المقرب "رامي العرعير" مساء
الأربعاء الماضي.
التفاصيل التالية التقطتها "فلسطين" في زيارةٍ لبيت العزاء المقام للشهيد عبر حوارات مع والدته "أم أشرف" التي بدت عارفة بكل تفاصيله، لأن "سرّه معها"، وكذلك مع أخيته.
في بيته لأول مرة
بعد أن قرأ 200 كتاب في تخصصه، كان قادرًا على إتمام رسالة الماجستير، قدّمها لأستاذه، واختار الخميس الماضي موعدًا لمناقشتها، اشترى ملابس جديدة ليرتديها أثناء المناقشة، ولأنه مهتم بأناقته دومًا، فقد غيّر إطار نظارته لتكون متلائمة مع لون هذه الملابس.
في صبيحة الأربعاء، ارتدى معطفًا شتويًا اشتراه مؤخرًا، وسأل والدته: "حلو عليّ؟"، فردت: "شو ما تلبس حلو عليك"، ثم استشارها من جديد: "ألبسه في المناقشة؟ ولا البدلة؟"، فأجابت ضاحكة: "كلك على بعضك حلو"، طلب منها أن تجهز له ما استقر عليه رأيهما، ففعلت.
وقبل أن ينتهي الحوار، أمسكته أمه من يده، وأخذته إلى الطابق العلوي، حيث بيته الذي لم تطأه قدماه من قبل، فقد اهتم أهله ببنائه لتزويجه فيه، وأتموا تجهيزه دون أن يدخله صاحبه، قالت له: "تعال أوريك بيتك"، صعد معها فعلًا، ولكنه لما انتهى من التجول فيه، قال لها: "والله مغلبة حالك يا أم أشرف، مغلبة حالك يا حجة".
وأثناء الخروج من الشقة، رأت الأم وجه ابنها وكأنه يشع نورًا، فشعرت بالرعب يباغت قلبها، وتذكرت قريبها الذي شاهدته على نفس الحال، فباحت لوالدته بشعورها بأنه سيستشهد، واستشهد بالفعل في غضون أسبوع، ما جعلها موقنة أن ابنها على موعد قريب من الشهادة.
"عندي مشوار خفيف".. كان هذا ما أنهى به الشهيد حواره مع والدته وجولته التي رافقها فيها في بيته، لم يخبرها بوجهته، لكنها أدركت أنه ذاهب إلى حيث يجد ذاته، إلى مكان يكون العمل فيه في سبيل الله.
كانت الأم قد أعدت له ملابسه التي يرتديها في أماكن العمل الجهادي، ولما سألها عنها، وجدها جاهزة فأخذها وانصرف مرافقًا صديقه الذي استشهد معه "رامي العرعير"، ولكنه لم يلبث أن عاد لدقائق فقط ليأخذ شيئًا نسيه، وفي عودته القصيرة والأخيرة، أخرج من جيبه حلوى وزعها على كل الموجودين في البيت.
بعد الخروج من البيت، توجه إلى المسجد القريب ليؤدي صلاة العصر، وبعدما أنهى صلاته، سأل شيخًا هناك: "كيف أقابل ربي؟ ماذا أقول له؟ ماذا يفعل المسلم لله عندما يكون بين يديه؟"، هذا ما أخبر الشيخ به عائلة الشهيد بعد رحيله، بالإضافات إلى كثيرين أخبروا العائلة بأنهم في الأسبوع الأخير كانوا يرون "إسماعيل" شهيدًا يمشي على الأرض، وخاصة في يوم استشهاده، حتى أن أحدهم قال له: "أنت مثل الحمامة البيضاء".
خالي في الثلاجة!
"المشوار الخفيف" لم يكن خفيفًا، طالت المدة فاحتل القلق قلب الأم، ومع تأخره أكثر، أخبرها زوجها بأن نفقًا قريبًا قد انهار، لكنها طمأنته بأن ابنهما لا يدخل الأنفاق، إلا أن الخبر الأكيد كان يقول بأنه كان في النفق المنهار.
لما وصل خبر تواجده في النفق، بدأت الأم ترتعش، وفي ذات الوقت وصلت ابنتها المتزوجة تسأل عن أخيها لتتحدث معه، فلم يكن قد وصلها أي نبأ بعد، ولما وجدت أمها على هذا الحال واستفسرت عن السبب، رد ابنها الصغير مكررًا ما سمعه من زوجة عمه: "خالي إسماعيل استشهد، وفي الثلاجة".
ما الذي حدث إذًا؟ قبيل الخروج من النفق بوقتٍ يسير، كان إسماعيل يدندن بأنشودة فيها: "هنيئًا لي.. هنيئًا لي.. صرتُ شهيدًا يا أمي"، وما هي إلا خمس دقائق حتى انهار النفق، تم العثور على "رامي العرعير" شهيدًا، لكن "إسماعيل" خرج منه يسير على قدميه، إحدى ساقيه كانت مصابة، لكنه مشى عليها لدقيقتين، لكنه لم يلبث أن غاب عن الوعي، وسرعان ما استشهد، وبذلك ارتقى الصديقان معًا، فهما كانا التقيا في فترة الدراسة الجامعية رغم فارق العمر، حيث جمعهما ذات التخصص، ومنذ ذلك الوقت بنيا علاقة صداقة مميزة في قوتها.
رحل إسماعيل، وبقيت من خلفه ملابسه التي خصصها لمناقشة رسالة الماجستير معلّقة في خزانته وجاهزة للارتداء، وبقيت الرسالة بانتظار أن يطبعها أهله ككتاب تنفيذًا لما كان يخطط له، فيما جزء من أموال الحصول على درجة الدكتوراة متوفر.
احتياجات الطريق
بالعودة إلى البدايات، فالشهيد الذي رحل قبل أن يتم عامه السادس والعشرين، كان متميزًا منذ طفولته، أحب المسجد، وانتظم على الصلاة فيه، وأقبل على حفظ القرآن منذ كان في المرحلة الإعدادية حتى أتمه وهو في عامه العشرين تقريبًا، وفي الفترة ذاتها كان يعلّمه للصغار والكبار في المسجد، هو خجولٌ يكف لسانه عن الآخرين.
وغير ما سبق، كان إسماعيل مهتمًا بأناقته إلى أبعد الحدود، فتناسق الألوان بين قطع الملابس لا يكفي، إذ من الضروري أن تكون المسبحة ملائمة أيضًا، لذا فله في كل زاوية في البيت مسبحة.
اختار أن يدرس المرحلتين الإعدادية والثانوية في "معهد الأزهر الديني"، وأتبعهما بالحصول على درجة البكالوريوس في الشريعة والقانون من الجامعة الإسلامية، وعمل في التدريس لفترة محدودة كمتدرب، ثم تفرّغ لدراسة الماجستير، ولما كبر قليلًا زاد وقت غيابه عن البيت، وأدرك الأهل أنه انخرط في طريق المقاومة، فما كان من أمه إلا أن كانت تجهز له احتياجاته لهذا الطريق دون أن تعيق تقدمه فيه، حتى في فترة اختبارات الثانوية العامة، إذ كان يؤكد لها أن خروجه للرباط في الليلة السابقة للاختبار يكون سببًا في توفيق الله له بدرجات أعلى.
وفي إطار العائلة، "إسماعيل" هو الابن الذي لا تُخفي الأم أن له مكانة خاصة، والأخ الذي يجيد بناء العلاقات الأسرية، فيوقظ أخته لتدرس معه، وينتظر ابنة أخته المقيمة في البيت ذاته ليفطر معها قبل أن تذهب إلى الروضة، ولقبه في البيت "أبو المضايف" لأنه اعتاد أن يشتري لإخوته الحلوى والتسالي مساءً في جلسات السمر، أبناء أخته كانوا هدفا له في تحفيظ القرآن، فقد حفّظهم عدّة أجزاء قبل رحيله.
في آخر صباح له في البيت أيقظ أخته الوسطى كالعادة، وأخبرها أنه ترك لها الشوكولاتة وعبوة من "النسكافيه" لتبدأ بهما يومها، ولما رحل كانت عبوة المشروب ما تزال مغلقة، كهدية أخيرة تشهد على كرمه المعهود، أخته هذه هي صاحبة العلاقة الأقوى به في البيت، وهي أكثر من يظهر وجع الفراق على ملامحها، وتشابهها في ذلك ابنة أخته ذات الاثنا عشر عامًا التي لم تكد تمتنع عن تناول الطعام منذ رحيله، أما والدته وأختاه الأخريان فالصبر يكاد يواري دموعهما، أما الحب فلا يواريه شيء، فمكانة الشهيد في القلوب تبدو واضحة في أحاديثها عنه، فالحكايا مُرفقة بابتسامات تشير إلى فيضٍ من المشاعر.
كان حريًا بالأطفال أن يتألموا لفقدان الخال والعم، فابن أخته ذو الأعوام الثلاثة يتساءل: "خالو راح.. مين يشوكني بذقنه؟"، وابنة أخيه تطلب العلكة وترفض أن تأخذها من كل من عرضها عليها، فهي تنتظرها من عمّها كما اعتادت.
حدود العائلة لم تكن لتتوسع لتشمل زوجة وأبناء، فقبل ثلاثة أيام من استشهاده، كان بعض أصدقاء "إسماعيل" يحدثونه عن اختيار عروس له، فأخبرهم أنه ينتظر عروسًا من "الحور العين"، وكان يرد على أهله كلما حدثوه عن البيت الذي بنوه له: "شاغلين حالكم".
أصدقاء الشهيد اعتادوا أن يجتمعوا بين الحين والآخر في بيته، فغرفته منبع راحة لهم، لذا ما كان منهم إلا أن أغلقوا على أنفسهم باب الغرفة بعد استشهاده، لينخرطوا في البكاء على عزيز رحل بلا عودة.
لكلٍ حقه
خارج البيت، يبكي الشهيد كثير من الناس، ليس الأقارب والأصدقاء فحسب، فهذا مثلا طفل في عامه السادس، وجده بعض المصلين متقوقعا في إحدى زوايا المسجد يبكي، وكان السبب: "أبو مالك مات"، فيما أطفال آخرون كان أهلهم من بين المعزين، فأجمعوا على أن أبناءهم لم يخرجوا من صدمتهم بعد، وتلك سيدة حضرت إلى بيت العزاء لتواسي والدته، ولما لم تعرف الأم، رفعت السيدة النقاب عن وجهها، وقالت: "أنا كان يرزّقني إسماعيل"، لقد جاءت من رفح إلى الشجاعية لتواسي عائلة من كان يتفقدها بالتبرعات، وترى ماذا يكون حال العائلات التي كفلها دون أن يخبر أحدًا لولا أن شيخه علم بأمرهم عبر آخرين، هؤلاء عندما تطرق الشيخ إلى ذكرهم، غضب إسماعيل لأنه يريد أن يبقى عمله الصالح بينه وبين ربه.
ليس البكاء فقط، فأطفال المنطقة أحيوا عادته في اليوم التالي لاستشهاده، إذ اعتاد في يوم الخميس من كل أسبوع أن يجمعهم ليكنسوا معًا الشارع، استعدادًا لصلاة الجمعة في المسجد المجاور، فهو صغير لا يتسع للمصلين جميعًا، لذا يخرج بعضهم للصلاة في الشارع، الأطفال عندنا نظفوا الشارع بعد غيابه، لم يتوقفوا عن الهتاف "أبو مالك.. أبو مالك".
يبدو أن الشهيد كان حريصًا على أن يعطي لكل شيء حقه، فقد كان عنصرًا فاعلًا وحاضرًا دوما في أسرته، وهو أيضا مجتهد في دراسته، ولم يكن يتخلى عن مكانه بين صفوف المقاومين، وفي المسجد هو محفّظ للقرآن، وكان يفعل هذا بتوازن شديد حتى لا تطغى مهمة على أخرى.
وإن كان إسماعيل مضى قدمًا في طريقه، فلا شك أن لأسرته دورًا، فأهله هم من مهد له هذه الطريق الوعرة، والدته التي بدأت حديثها بـ"الحمد لله" و"إنّا لله وإنا إليه راجعون"، تؤمن بأن الله إنما ينعم على الناس بالأبناء لعبرة، وبأن الأجل إذا حان سيقع حتمًا حتى وإن اختلف شكله، لذا فهي تتساءل كيف أن من الأمهات من تحول بين أبنائها والجهاد!، لقد اقتنع بأن الموت واحد، لكنه كان يتمنى الطريقة الأفضل، ألا وهي الشهادة التي نالها أخيرًا.