دوى صوت انفجار هز المنطقة، تركت كل شيء بيدها، وخرجت لإلقاء نظرة اطمئنان على زوجها وطفليها هذه النظرة التي كانت تلقيها مع كل صوت انفجار كان يقترب من أماكن نزوحهم هي الشيء الوحيد الذي كان يبرد قلبها ويسكن مخاوفها، هذه المرة كان شيئًا في قلبها يدفعها للقلق تتقدم بخطوات تائهة مرتعدة مصحوبة بإرتجافة قلب.
تصلبت نظرات آية حسونة (30 عاما) أمام قسوة المشهد؛ زوجها عبد الله السوسي (33 عاما) ممددًا مسجى بدمائه وأمامه طفلها حمزة (4 أعوام) ممزقا والذي كانت تسمع صوت ضحكاته ولعبه مع شقيقته رغد (عامان) قبل لحظات، وكانت أرسلتها للتو لوالدها بعد أن ألبستها ملابس جديدة وغسلتها، وكأنها كانت تجهزها للكفن دون أن تدري.
لم تكن الطفلة بعيدة عن الصاروخ فنال منها، وكذلك نال من شقيق زوجها وليد السوسي ومن خالها ماجد السوسي، وكلهم كانوا يستظلون أسفل حائط أمام خيمتهم بمنطقة المواصي غرب خان يونس هربا من شمس الظهيرة الحارقة، يوم الجمعة 9 آب/ أغسطس 2024،
وحيدة بلا شريك الروح
كانت تلك الحادثة أشبه بحلم تحاول آية حسونة التعافي منه، وتضميد جراح قلبها النازفة، التئم جرح الشظية التي أصابت ظهرها وأرقدتها بالمشفى أسبوعا ونصف، وبقي نزيف قلبها مجروحا لا تضمده كل الخيوط الطبية. رحل "عبد الله" واختفت ضحكات حمزة ومناغشة "رغد" وبقيت هي وحيدة تكمل مشوار الحياة الذي بدأته مع شريك العمر والروح.
كأي أسرة تعيش مرارة النزوح بمنطقة المواصي، انهى عبد الله السوسي مهمته الشاقة بتوفير متطلبات الحياة اليومية لأسرته وأحضر جميع متطلبات إعداد وجبة الطعام وغادر لإداء صلاة الجمعة.
"بقيت في الخيمة بعد أن طهوت الطعام، وكنت أجلس مع طفلي حمزة ورغد، ونشاهد الرسوم والأشجار وصور القصص التي اشتراها لهم والدهم للتعود على المطالعة او للترفيه. دخل الخيمة واستغرب من جلستي مع الأطفال: "مالك قاعدة!" فمازحته: بستناك تساعدني، وبالفعل شمر عن ساعديه وساعدني بباقي متطلبات طعام الغداء ثم غادر وهو يرد السلام، فقلت له خد الأولاد معك" يتدفق الوجع والقهر من قلب آية وهي تقص شريط حكايتها لموقع "فلسطين أون لاين".
تقع خيمتها بجوار الحائط الذي استظل أسفله زوجها وشقيقه وخالها، تحاول لملمة شتات المشهد المتناثرة بين حطام الفقد "غادر حمزة وكنت أسمع صوته وهو يلعب، وألبست رغد، وقبل انتهاء الطعام سقط الصاروخ، وهم يجلسون في الظل وعندما خرجت كان الدخان يملأ سماء المنطقة".
تنتشل بقية المشاهد التي تسكن ذاكرتها، "استدرت فاخترق شظية ظهري، كنت أشاهد المشهد بينما أشعر بضغط شديد في أذني وكأنهما أغلقتا من صوت الصاروخ، وحدث نزيف في منطقة الكلى، ناديت على رغد فوجدتها ممزقة، وأمامها حمزة، قلبت ظهره، وتقدمت وأنا أنزف لم أجد من عبد الله سوى أطراف قميصه وبقيت جسده تحول لأشلاء".
تربط على جرح قلبها في لحظة بللت الدموع صوتها "أعطاني الله القوة رغم إصابتي أن أذهب وأتفقدهم وأتأكد من استشهادهم، قبل الذهاب للمشفى. المؤلم أنني لم أستطع استيعاب وجودي بالمشفى التي استقبلت جثامينهم قبل التشييع".
"راضية بقضاء الله، أولادي طيور بالجنة وزوجي شهيد أدى صلاة الجمعة" تتكئ على عكاز الصبر، صابرة محتسبة أمرها لله، تؤمن أن ما حدث لها ابتلاء من المولى عز وجل.
في 2019 ارتبط عبد الله بشريكة روحه وحياته "آية"، وكان وقتها يعمل الشاب الذي تخرج من بكالوريوس تربية لغة عربية وماجستير آداب وبلاغة مدققا لغويا بإذاعة القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية ومدققا لغويا للمقالات صحفيين وعرف عنه بموهبته في الكتابة والبلاغة، بينما كانت تعمل بوزارة الصحة بقسم نظم المعلومات الجغرافية.
معاناة من البداية
بدأت رحلة معاناتهم في الحرب في أيامها الأولى عندما بدأ الاحتلال يقصف حي "الصفطاوي" شمال مدينة غزة، حتى استشهد اثنان من أعمامه هناك، فقررت العائلة النزوح لعدة مناطق بمدينة غزة، ثم انتقلت عبر ممر "الموت" إلى خان يونس وعاشوا شهرا عن أقارب لهم قبل انتقالهم لمحافظة رفح وعاشوا هناك خمسة أشهر، كان توفير الحليب وحفاضات أطفال صعبا بسبب ارتفاع أسعارهما وشحهما لفترة طويلة من السوق.
لم تهرب من ذاكرة "آية" يوم خروجها من رفح بعد المغرب "وصلنا المواصي الساعة الحادية عشرة مساءً، خرجنا من رفح تحت القصف المدفعي وفي آخر لحظات، أثناء نزوحنا وقفنا أمام مقبرة. نزل عبد الله ووقف مع زوج أختي أمام المقبرة والمفاجأة أنه دفن بنفس المكان الذي وقف أمامه".
عرفته زوجًا "حنونًا" يساعدها في أعباء البيت، يحمل عنها جزءًا من هم تربية الأطفال فكان دائما يصطحبهم معه، تخنق الدموع صوتها: "كنت أعتمد عليه في كل رحلة النزوح، لم يتركني وشاركني في كل الأعباء، خاصة تربية الأطفال، كان يتمنى أن لا تطول الوضع، حتى لا "يستاء الوضع".
أقام عبد الله خيمته في مخيم عائلي لا يزيد عن عشر خيام، كانت العائلة تهرب لظل جدار كان متنفسهم الوحيد من حر الظهيرة، وتحت كان يلعب حمزة ورغد، بينما يجلس والدهما لمتابعة الأخبار عبر الانترنت خاصة ما تنشره المقاومة من مقاطع فيديو لعمليات مقاوميها.
رفض عبد الله فكرة الهجرة من غزة، فحياته لم يرهَ بعيدة عنها، رغم عروض قدمها له أشقاء زوجته المغتربين لمساعدته بالسفر، لكنه خطط للتخفيف عن آثار الحرب النفسية بالسفر المؤقت بعد الحرب، فكانت وجهة السفر غير المخطط لها بعدما صعدت روحه للعلياء.
عانى الشاب المثقل بالمعاناة في توفير المياه الصالحة للشرب ومياه الاستخدام المنزلي، حيث تعاني منطقة المواصي من شحٍ في توفير هذه المياه، وكان ممن يعتمد عليه الناس في داخل وخارج القطاع لإيصال المساعدات والخيام للمحتاجين، تستحضر ذاكرة زوجته آخر عملية إغاثة نفذها قبل يومين من استشهاده بتوزيعه مبالغ نقدية على النازحين، فضلا عن مشاريع "سقيا الماء".
غابت ملامح عبد الله عن الخيمة، ورحلت ابتسامته وحضوره وضحكته، ووجدت "آية" نفسها بلا شريك الروح والقلب، تتكئ على ما بقي من ذكريات ومواقف تمنحها صبرا وتماسكا، في خيمة فارغة أسودت فيها الحياة بعدما كانت ملونة بحضور زوجها وضحكات طفليها.
مع كل يوم يأتي بائع حلوى "الحلب" ينادي على الأطفال، يطل صوت طفلتها رغد من جيوب ذاكرتها وهي تطلب من أمها إعطائها شيقل لشراء قطعة حلوى أحبتها الطفلة، ويطرق صوت طفلها حمزة تلك الذاكرة المجروحة بجرح الفقد مع قدوم شاحنة تعبئة المياه المحلاة يردد بصوت مرتفع "مية حلوة .. مية حلوة" تلك الكلمات لا زال صداها يتردد في ذاكرة أمهم التي لم تشفَ، التي تتدفق معها سيول من الدموع والوجع والقهر.