لا يوجد معنى آخر لإقدام إسرائيل على تجنيد اليهود المتزمّتين من "الحريديم" سوى أنّ جيشها بات في أزمة شديدة، بل محنة لم يمر بها من قبل. في الوقت نفسه لا يوجد معنى لرفض هؤلاء التجنيد سوى أنهم غير معنيين بأزمة هذا الجيش، بل ليس لدى الأغلبية الكاسحة منهم أي استعداد للتنازل عن المنافع المادية، والمكانة المعنوية، التي يحوزونها في إسرائيل، حتى لو كانت "الدولة"، التي تمنحهم كلّ هذا، في خطر.
يثبُت موقف "الحريديم" الآن من التجنيد عند حالهم القديمة، حيث التمسك بالدور الذي رُسم لهم، أو طلبوه ونالوه قبل عقود من الزمن، لكن موقف الحكومة هو الذي تغيّر، فأصبحت تميل مضطرة، بعد طول تفكير، إلى الموازنة بين المنفعة السياسية المربوطة بأصوات الحريديم في الانتخابات، وبين حاجة الجيش الآن في ظلّ ما يواجهه من متاعب في قطاع غزة، وفي محاذاة أراضي لبنان، وهو أمر عبّرت عنه قيادة الجيش في وصفها تجنيد الحريديم بأنّه "ضرورة عملياتيّة".
لقد بدأت رحلة العلاقة بين المؤسسة السياسية والحريديم منذ إنشاء إسرائيل، إذ تركت حكومة أول رئيس وزراء ديفيد بن غوريون عام 1948 أربعمائة طالب يتفرغون لدراسة التوراة، وليس لهم أي عمل سوى هذا، فصار شعار كل فرد فيهم هو "توراته مهنته"، وأُطلق علي زمرتهم "مجتمع الدارسين". وتضاعف هذا العدد عام 1968، ثم فُتح الباب على مصراعيه أمام انضمام كثيرين إليهم، حين أُلغي تحديد العدد عام 1977، وأصبح كل حريدي يسارع إلى الحصول على انتماء لهذه الفئة، كي يحصد مزاياها، ومن بينها تأجيل الخدمة العسكرية.
وبينما ظلت المؤسسات السياسية الإسرائيلية تتقلب في حدين من الأيديولوجيات اليسارية واليمينية وما بينهما من ألوان طيف، ظل الحريديم يمثلون "الأصولية اليهودية" في طبيعتها المشابهة لأديان ومعتقدات أخرى، حيث التصور التقليدي المحافظ، والتفسير الحرفي للنص التوراتي، والشعور بالتميز عن سائر اليهود، المبنيّ على اعتقاد في الإخلاص للعقيدة والتفرغ لحراستها. وبات يُنظر إليهم على أنهم مجتمع يهودي تجمد في الزمن، يحافظ على شكله، كما كان في العصور الوسطى، ولا يريد أن يبرحه.
ومع تجمد صورة الحريديم الذهنية وثبات دورهم الاجتماعي، تجمدت مسألة تجنيدهم، وكان يتم التعامل معها على أنها مسألة هامشية يجب عدم التوقف طويلًا عندها، إلا أنها أخذت تتحرك، وتُثير في المجتمع أسئلةً حول التمييز والجدوى، وفي المؤسسات السياسية ميلًا إلى مراجعة الموقف، لاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة، بعد أن تعزز وجود الحريديم في المجتمع، وصاروا يشكلون نسبة معتبرة من السكان.
فاليوم صار عدد الحريديم نحو 1.4 مليون نسمة تقريبًا، بنسبة تصل إلى 18% من القوة الديمغرافية لإسرائيل، وهو عدد مرشح للوصول إلى ثلث السكان عام 2040، نظرًا لأن نسبة تكاثر هؤلاء تبلغ 4.2% مقارنة بـ 1.4% لدى يهود إسرائيل، و1.9% لدى مجمل السكان، بمن فيهم العرب، من مسلمين ومسيحيين، ودروز. والأهم هو تعزز نسبة الشباب بين الحريديم، حتى صاروا يمثلون 16% من جملة شباب إسرائيل، كان من بينهم 12 ألف شاب في سن التجنيد، وفق إحصاءات 2023، وهذا رقم ليس بالقليل قياسًا إلى القوة العاملة في الجيش نفسه.
ورغم أن التعليم الديني في إسرائيل يستقطع جزءًا لا يُستهان به من الموازنة العامة، فإن عائده الاقتصادي ضئيل جدًا، لاسيما إن قورن بمردود التعليم المدني، فكثير من الحريديم يعتمدون في معيشتهم على إعانة ثابتة من "الضمان الاجتماعي"، ولا يعملون، بما يرهق المجتمع ماديًا، ويضاعف شعور البقية في إسرائيل بالتمييز لصالح فئة، لا تخدم المجتمع، وتستغل قوتها العددية في الابتزاز السياسي، الذي يقوم على ثلاثة اعتبارات أساسية، هي:
استغلال القوة العددية للحريديم في حسم تشكيل الحكومة، من خلال الحزبين السياسيين اللذين يمثلانهم، وهما "شاس" و"يهدوت هتوراه"، ولهما 18 نائبًا في الكنيست الحالي من بين 120 نائبًا، بنسبة 15%. رغم أن الحريديم يرفضون الديمقراطية، ولا يكفون عن انتقاد الأحزاب العلمانية التي دان لها الأمر على مدار سبعين عامًا في حكم إسرائيل، قبل أن يصعد اليمين الديني في السنوات الأخيرة، ويصير قادرًا على التأثير في القرار مثلما نرى الآن.
يواجه الحريديم منتقديهم بأنهم من مؤسسي "الدولة"، ولولاهم ما كانت إسرائيل، وأن شرعية وجودهم، والمنافع التي يتحصلون عليها، إنما هي لقاء دورهم في هجرة اليهود إلى فلسطين، وإسهامهم الفكري في بلورة قوانين العودة والجنسية وقيام قومية الدولة على أساس ديني، فضلًا عن أثرهم في التشريعات المتعلقة بالأحوال الشخصية والتعليم.
الدور الذي يلعبه الحريديم في ربط "اليهود المتدينين" في العالم كله بإسرائيل، وهو ما يجلب لها دعمًا ماليًا وسياسيًا من الغرب.
وظلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تأخذ اعتبارات الحريديم في الحسبان، إلا أن حالة "الضرورة" جعلتها تفكّر في اتخاذ ما لا بد منه، وهو تجنيد الحريديم، فصدر قرار من قبل محكمة العدل العليا (أعلى هيئة قضائية في إسرائيل) في يونيو/حزيران الماضي ينهي رسميًا إعفاء هذه الطائفة من الخدمة في الجيش، فما كان من وزير الدفاع يوآف غالانت إلا أن وافق على إرسال ما يقرب من ألف أمر تجنيد لرجال من الحريديم،، تنفيذًا لقرار المحكمة، كي ينضموا إلى فرقة جديدة سيطلق عليها الجيش اسم "فرقة دافيد"، وستضم جنودًا ومجندات بلغوا سن الإعفاء ومتطوعين وعناصر من الحريديم.
ويُعوّل الجيش على مساهمة الحريديم في تجنيد أربعين ألف مقاتل إضافي، لاسيما في ظل غلبة الشباب في هذه الطائفة مقارنة بسائر اليهود. فأعمار نصف المُستدعَين منهم للجيش تتراوح بين 18 و21 عامًا، و40% بين 22 و23 عامًا، و10% بين 24 و26 عامًا، وبذا سيعوضون جنود الاحتياط، الذين أعلنوا رفضهم العودة للقتال في قطاع غزة، حتى لو تعرّضوا للعقاب.
ولا تلقى رغبة الجيش هذه قبولًا من الحريديم، إذ حرَّض حاخاماتهم الشباب على تمزيق خطابات الاستدعاء، بل نجد بعضهم قد اقتحموا، وهم يرتدون زيهم التقليدي المكون من بذلات سوداء وقبعات، قاعدة "تل هشومير" العسكرية قرب تل أبيب يوم الثلاثاء الماضي رافضين تجنيدهم، غير عابئين بالقانون الذي يمنع اقتحام ثكنات الجيش وقواعده، ومتعللين بأن إجبار طلاب المعاهد الدينية على الخدمة إلى جانب العلمانيين، بمن في ذلك النساء، يهدد بتدمير هويتهم كيهود متديّنين. وأدى هذا الموقف إلى أن يستجيب ثلاثون فقط من بين ألف من شباب الحريديم أُرسلت إليهم خطابات استدعاء للجيش.
ومع إصرار الجيش على تنفيذ قرار المحكمة، الذي يقضي أيضًا بمنع المساعدات المالية عن المؤسسات الدينية التي يرفض طلابها الخدمة العسكرية، من المرجح أن تثار توترات بين المتدينين والعلمانيين في المجتمع الإسرائيلي.
وفي ظل هذا يمكن القول بوضوح إنه ما كان للحكومة أن تُضحى بالتماسك الاجتماعي، أو بالقوة السياسية للحريديم، لولا تأزم الجيش، وصراخ قادته مطالبين بتعويض القتلى والجرحى والمنهارين نفسيًا والمتهربين من الخدمة العسكرية، لاسيما إن اتسع نطاق الحرب على أكثر من جبهة.